يصيح المنبه فى ثورة عارمة، يعلن تمام الخامسة، أتباطأ نصف ساعة، أغادر نومى، أرْوِى زهورى، أنسق مكتبى، أُزيل الأتربة! أستقبل يوما أحبه، أنتظر قدومه متلهفة، أرتدى الچينز والوشاح الملون والحذاء المريح، أغلق «الموبيل»، أحمل المراجع والكشكول والأقلام، ما زلت طفلة صغيرة، وسأظل، ما دمت فى مجاهل المعرفة الوعرة أهوى الترحال!
تهلل أجراس الجامعة أثناء دخولى الأروقة الباهرة، أدرس فنون الترجمة باللغة الإنجليزية الموجَزة إلى اللغة العربية المُسْهَبة، دقات قلبى متوترة، صفعات عقلى قاسية، يا الله! أضعت ستين ثانية تامَّة، وأساتذتى تضبط عليهم مواقيت الصلاة الخاشعة! أدلف القاعة المهيبة مهرولة، أجلس فى المقدمة، حتى لا يغيب عن سمائى نقطة أو حرف من كلماتهم المُلهمة.
هو مهرجان مُبهِج للمعرفة، حقق المعجزة! يبدأ فى صباح الثامنة، وينتهى فى مساء السادسة، حَضْرة أساتذتى بديعة، من فرط عذوبتها، تنسينى هزيمة واقعى المتلازمة! هم لا يَمَلُّون، لا يَغْضَبون، رغم حماقتنا المتناهية! يغرفون من المعارف أطنان! وأثناء الاستراحة الهادئة، تغمرنى الأشجار الوارفة، والنسمات المنعشة، أتناول البيتزا مع القهوة بالحليب، ثم أستكمل محاضراتى فى متعة غامرة.
تتأمل المدهشة «د. سلوى كامل» كل الوجوه الصَّامتة؛ تُصر على بلوغ كل تركيبة ودلالة نافذة، ألتقط منها تلك الرسائل الناصعة: لا مُقدس فى المعرفة! إذا علمتك أن تفكر، أكون نجحت فى منحك مفتاحا لكلِ مُعْضِلة! أحترم الطفل داخلك؛ فهو يملك قدرات لا يستهان بها! نريد أجيالا تفكر، لا تسير كالقطيع، بل تغير وجه التاريخ! نحلم بمدرسة تكتشف ملكات الإبداع، لا تقضى عليه باستمتاع!
تروى الخطيرة «د. لبنى عبدالتواب» كيف نؤسس المقال؟! كيف نُجرب ونُجرى الحوار؟! كيف نغوص فى محيط الكتب دون انتظار؟! تقرأ بصوتها الساحر أعظم الروائع؛ لنفهم كيف تُنْسَج الحَكايا؟! تُنْبِئُنا إن كنا صغارا، يمكننا تجاوز قمة الكبار فى النهاية! تَفضِح وَضاعَة السؤال عن «الامتحان»، فهو جزء من الحياة، لا يبتر عنها بشكل مُهان! لا تَمَل فقر المستوى، بل تَعصِف الأذهان.
يتوغل الأسطورة «د. خالد توفيق» فى المفاهيم السياسية، الطالب المتفوق فى الثانوية، الثانى على «الجمهورية»، الأول على محافظة «الجيزة» ومدرسة «السعيدية»! تجرفنا شلالاته العاتية، تغرقنا فى أنهاره المترامية! القلم يقفز فى يدى، لا يستطيع ملاحقته من البداية حتى الخاتمة! يُفَنِّد التفاصيل الدقيقة، يَحْفُر الأنفاق الطويلة! نموذج للنبل والفضيلة، كريم الأصل، طلته مجيدة.
يتحدث الخارق «د. زكريا محمد»، فتنصت إليه كل الموجودات، كأن الكون ينتظره مثلنا منذ زمن فات! يشرح أصول الترجمة الأدبية؛ شعر، نثر، أنشودة، رواية! يبحر معنا متحديًا تَلاطُم الأمواج، يستخرج العقيق واللؤلؤ والمرجان! يترجم إلى الفصحى، لا يتعالى على العامية! بل يُجِل كل صورة، يحترم كل الأشكال، يختار نصوصًا بليغة، تعشق عذوبتها، تمقت لحظة الإفلات.
يخترق الواعد «د. عمرو نور» الأدغال المخيفة، يصنع من فِقْرَة «السياسة والاقتصاد» فطيرة بالفواكة اللذيذة! يقدمها صُنوفًا مُنوَّعة، مُزينة بالأرقام الرَّهيفَة! يلين الحديد المسلح والجرانيت والأسمنت بين أصابعه الخبيرة! تصبح «جاتوه» بالمكسرات والكريمة! ألاحقه دومًا بواجباتى المُتَرهِّلة، فيعالج موطن الداء بمشرطه المَكين! يختار أروع المشاهد والخطب، أهم الأخبار والعناوين.
ترسم الفراشة الرقيقة «د. عبير صلاح» لوحة أدبية رشيقة، لأجمل المؤلفات والقصائد الأنيقة! تُفَسِّر كل معنى فصيح، تغوص فى عمق البديع، تذوب كقطعة السكر فى الشخصيات والحبكة والطريقة! ألاحقها كعادتى بآرائى المتصارعة، وأتعثر دومًا فى إلقاء الأسئلة؛ لضعف إلمامى باللغة! فتنصت بكل وُد واهتمام! تشاركنى مشقة الأحمال، رحابة الأحلام، البحث عن الحقيقة!
تُشَيِّد الفريدة «د. عزة شبل» جسرًا متينًا من الصرف وبلاغة الكلام، تنقب عن الجواهر الثمينة فى النصوص بالغة البيان! باحثة نادرة، آرائها بصيرة، راقية السريرة! تُعلمنا قواعد النقد، فن الحُجَّة، أسلوب النقاش، لياقة الاختلاف! تُفسر الاتجاهات والمدارس الرصينة؛ الماضية، الحديثة! تزيل كل الأشواك العائقة! يتسلل الفرح فى حضرتها، يطرد بشراسة كل الأحزان!
يشرح المدهش «د. تامر فايز» الأدب العربى المعاصر، فأقترب منه، لأعرض عليه المقال، يُصحِّح قلمه البارع كل أخطائى دون تبرم أو اعتذار! يفتح كل النوافذ على المذاهب الفكرية والمسرحية؛ المصرية، العالمية، الكِلاسيكِيَّة، الآنية! يحرضنا بضراوة على ذلك السؤال: متى طالعت كل هذه الدراسات، تجاوزت قمم الأعمار، كشفت جميع الأسرار؟! كيف أنافسك فى ميدان الثقافة وغزارة الأفكار؟!
اعتذرت العذبة «د. لميس النقاش» عن المهمة كاملة، لكن نشوة طلتها باقية، تطاردنا فى كل الأمكنة، تُذكِّرُنا كيف ننصت إلى همس الطبيعة، المخلوقات المتناغمة؟! كيف نَلمَس الجمال فى كل الأشياء، حتى لو كانت فى القبح ساكنة؟! خَسِرْنا لمَحاتها المُتعمِّقة، ابتسامتها المشرقة، التى تنتزع من عوالمنا كل الأجوبة! تبدد عتمة النفوس، تفتت الصخور، تذيب الكتل الباردة!
ضيق المساحة تخنق قادم السطور! تعجز عن ذكر باقى الكواكب والنجوم! لو كان بيدى سلطة، لمنحت «المَجَرَّة» كاملة لكل أساتذتى، فى مقابل غرفة متواضعة فى هذا المعبد المقدس؛ لأفك شفرات كل الكون الغامضة!
يا وزير التعليم الطموح، لا تغلق باب «التعليم المفتوح»؛ هو بنك للعلم مفتوح! يلتقط البراعم والثمار، يشعل قناديل وسط الظلام! لا تطفئ نور الشمس الساطعة، لا تحجب شعاعه عن العقول المتفتحة، لا تمنع الماء والهواء عن الخلايا المتجددة! لا تردم الطرق الممهدة، بل أصلح التالف بها! هكذا تتقدم الأمم، يتعالى مجدها.