كجسدٍ ساهموا في إنهاكه وقطعوا عنه أسباب التعافي، وانتظروا إعلان وفاته، ففوجئوا به ينتصب على قدميه، لا ليدفع عن نفسه فقط أيديهم ولكن ليقطع عليها الطريق في محيطه ومساحة مسئوليته.. هكذا أرادوا لمصر ولكن هذا ما رأوا منها، فكان لهم أن يُصدموا ويغضبوا أيضًا.
التحديات التي تواجهها مصر على كافة الأصعدة أوهمتهم بأنها ستنشغل عن دورها ومسئوليتها، أو تتخلى عن من ظنوا بها خيرًا وانتظروا منها أن تمد لهم يدها، وتقف إلى جوارهم في وجه من أرادوا سلب تاريخهم وانتهاك حقوقهم، إلا أن التحرك المصري كان على غير ما توقعوا.
نجحت مصر في أن تقطع الطريق على من تاجروا بالقضية الفلسطينية تحت غطاء "أيدولوجي"، وحاولوا من خلالها أن يصنعوا لأنفسهم دورًا لمناطحة مصر، وزعموا في العلن أنهم يسعون إلى تحقيق المصالحة، بينما كان في السر شيء آخر وملايين الدولارات تنفق لترسيخ الانقسام واستغلال طرف على حساب قضية أُمة بكاملها.
جاء التحرك المصري لإتمام المصالحة الفلسطينية لتعرية أصحاب الشعارات وفضح أصحاب الأجندات، فنجحت في توحيد الأضداد لتفويت الفرصة على الكيان الصهيوني الذي دائمًا ماكان يتحجج بأن التباطؤ في محادثات السلام يرجع في الأساس إلى الانقسام الفلسطيني، وأن مايتم الاتفاق عليه مع السلطة لن تلتزم به حركة حماس، فكان التحرك المصري داحضًا لحجة الاحتلال ومُربكًا لحساباته.
الغضب من التحرك المصري طال أطرافًا كثيرة، أبرزها أطراف إقليمية سخرت آلتها الإعلامية لتشويه هذه الجهود والتقليل منها، لأنها تعلم يقينًا أن النجاح المصري يقطع عليها الطريق ويكشف زيف ادعاءاتها، وبالتالي تتحول بضاعتهم إلى تجارة خاسرة لن يحققوا منها مكاسب إضافية، ويعيدهم إلى المربع "صفر"، وربما يكشف عجزهم أمام سادتهم الذين استغلوهم لتمييع القضية والتباطؤ في حسمها.
التحرك المصري لم يكن مفاجئًا وموجعًا لهذه الأطراف الأقليمية فحسب، ولكنه طال الكيان الصهيوني، لأنه بطبيعة الحال المستفيد الأول من الانقسام الذي كرسته هذه الأطراف المتشدقة بنصرة العروبة والإسلام، ويدفعه إلى التقدم خطوة إلى الأمام في ملف السلام، لأن العقبة الكئود أُزيلت في وقت لم يكن يتوقعه، وكل محاولاته ومخططاته ذهبت مع الريح.
العدو الصهيوني صاحب نظرية "فرق تسُد"، لم يغضبه لملمة الشتات الفلسطيني فحسب، ولكن ما أزعجه أكثر هو التجاهل المصري لـ"تل أبيب" في ملف المصالحة، وهو الأمر الذي أثار قلقه مرة أخرى، خاصة وأن التحرك المصري جاء بالتزامن مع اعتراف مسئولين إسرائيليين بأنهم سيقفون ضد إتمام المصالحة الفلسطينية لأنها تتعارض مع مصالح الكيان المحتل.
لم تكد مصر أن تلتقط أنفاسها بعد هذا التحرك، حتى فوجئت بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل والبدء في إجراءات نقل سفارة واشنطن إليها، وعلى الرغم من مزايدات أصحاب الشعارات الذين ملأوا الدنيا ضجيجًا، تحركت مصر وحدها على الأرض لتقود مشروع قرار عربي في مجلس الأمن ضد قرار ترامب.
التحدي المصري لاقى صدى واسعًا، وعلى الرغم من أن مشروع القرار كان يلزمه 9 أصوات لتمريره إلا أنه حظي بـ14 صوتًا، لتجد أمريكا نفسها مضطرة لاستخدام الفيتو، وهو الأمر الذي مثل تعرية جديدة لأمريكا وحليفها الإسرائيلي، ما أثار غضب المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هيلي، والتي قالت إن بلادها استخدمت الفيتو دفاعا عن دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، واعتبرت أن مشروع القرار المصري يعرقل عملية السلام!
وسط هذه المزايدات، ناقشتُ التحركات المصرية مع أصدقائي السياسيين الفلسطينيين، وهم أصحاب القضية الأكثر وعيًا بها، وجدتهم يدركون جيدًا أن مصر تقود التحركات لحل القضية الفلسطينية طوال عمرها، وكل ما يتردد من هنا وهناك مجرد ضجيج بلا طحين، وأن استدراج الجيش المصري لحرب تستنزفه ليست في صالح قضيتهم، لأنه لو حدث ذلك ستُهدر القوة التي يستندون إليها ويحتمون بها.. هذا رأي أصحاب القضية أنفسهم، وما بين هذا الوعي وهذه المزايدات، تصدُق مقولة "من يرى السُمّ لا يشقى كمن شربا".