كنت كتبت هذا المقال من ذى قبل، لكن مداعبة أستاذنا محمود حامد للزميل مايكل، بقوله، إزيك يا شيخ مايكل، جعلتنى أعود إلى «عواجة»، الذى لن أنسى له أنه ضربنى ظلما وطغيانا، والحقيقة أنه لو وقف الأمر عند الضرب لكنت سامحته، لكن عواجة سمم أفكار العديد من أبناء جيلى، فيكفى أنه جمع ذات يوم الصغار حينما توفى أحد الإخوة المسيحيين فى قريتنا، وجلس كجهبذ يخطب فينا: «إياكم تروحوا عند دار المسيحيين عشان القسيس جاى دلوقتى، فقلت له وهل القس يخيف؟ أليس مثله مثل الشيخ عندنا؟، بصق عواجة فى وجهى، وقال لى: لماضة أمك دى مش هتخليك تنفع، افهم ياض علشان ما تنضربش تااانى، المسيحيين هيروحوا النار.. قاطعته مين اللى قالك يا عم عواجة؟ هو إنت شغال هناك، ضحك العيال، فاستشاط عواجة غضبا وقذف فى وجهى بحفنة من تراب، وقال ما أمنوش بالنبى يا غبى، رددت عليه وانت آمنت! هو النبى كان قال تخرموا بوء العيال بالإبرة وتقولوا بركة، ولا النبى كان قال تسبوا وتلعنوا وتكفروا الناس، صرخ فى وجهى وقال لى ما إنت مش متربى ولا تعرف حاجة هتعرف إزاى وبيتكم طول النهار شغال فيه الراديو أغانى، صاح العيال واستنكروا ردى وطالبونى بالصمت، فقال عواجة، المسيحى لما بيموت بيحطوه على الأرض ويبعتوا يجيبوا القسيس ومعاه خرزانة، وبينزل ضرب على الميت بتاعهم وهو بيقول.. تموتى ليه أكلك كتير تموتى ليه.. وبعدين يحطوه فى خشبة ويدقوا مسمار فيها من فوق علشان لما الميت بطنه تتنفخ المسمار يطرقعها».
منا من صدق حكاية عواجة، لكن الفضول لدىّ دفعنى إلى أن أذهب إلى حيث بيت المتوفى، وفى الحقيقة وجدت المسلمين الجالسين أكثر من المسيحيين، اندسست بين الأرجل، فوقعت عينى على «مغسلة»، ولم أر خرزانة ولا مسمارا، سرت معهم حتى المقابر، فدفنوه وبدأ القس يردد بعض الأدعية، فانصرفت وأنا أسب «عواجة»، وقررت أن أفضحه أمام «العيال»، فجمعتهم وذهبنا إليه وحكيت له ما رأيت، وأخبرته أن ما رواه لنا لم يحدث منه شىء، لكن «عواجة» على قصره وضعفه كان ماكرا، فصمت لبرهة وقال «هناك سر لم أخبركم عنه خوفا أن ترددوه بين الناس، ولكن حتى لا تظنوا أننى كذبت عليكم، هذا الرجل الذى مات ليس مسيحيا، وهم يعرفون ذلك جيدا، لذا لم يضربوه بالخرازنة، هذا الرجل جاء لى قبل موته وقال لى يا شيخ (عواجة)، إننى أسلمت، صاح (العيال): الله أكبر، وأنا أقول فى بالى (يا ابن اللئيمة يا عواجة)، ألم يجد إلا أنت ليتحدث معك! نحن كرهنا الإسلام بسببك».
ورغم كذب عواجة وزيف ادِّعاءاته فإنهما كانا السبب فى أن أعمق علاقتى بزملائى المسيحيين وأن أقرأ وأتعامل، ثم أحكم على ما سمعت.
لا أخفى عليكم أن الشك ظل يراودنى والمعلومات المغلوطة لا تحاصرنى أنا فقط بل تحاصر الجميع، حتى إنك تسمعها من رجال كبار فى السن، كقول لا تنفرد بمسيحى فى بحر فلو كنت بمفردك لأغرقك ولو كان حولكما ناااس لتظاهر بأنه ينجيك.
ظللت هكذا حتى نسف عم إبراهيم ميشو ذلك الاعتقاد وتلك الأفكار، حينما رأيته يركب هو وأبناؤه «نجارة المسجد»، وحينما أذن لصلاة الجمعة جلس يستمع إلى الخطبة، ثم بعد أن فرغنا من الصلاة، قام ليكمل عمله، رأيت الخير من قائدى المسيحى فى كتيبتى بالجيش المقدم «سامى»، ثم من أصدقائى فى العمل وائل وياسمين وسيفين، رأيت الاحترام والأخلاق من المعلم الجليل الأستاذ «عياد غطاس»، رأيت بشاشة الوجه فى مصفف الشعر الأول «مايكل»، ثم رأيت عظمة المصريين فى زلة لسان لشيخ جليل وهو ينادى فى ميكروفون المسجد على وفاة عمى إبراهيم ودون أن يدرى يقول: «توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج إبراهيم ميشو»، رأيت جنازة الرجل وعزاءه من المسلمين والمسيحيين، فأدركت أننا طاوعنا الدين وطوعناه، عرفناه بالفطرة وأحببناه.. عرفت أننا كمصريين سنكون فى رباط ليوم الدين.. فاخلع نعليك.. وصل من أجل مصر وأهلها.. عاشت مصر حرة أبية، وكل عام وهى ونحن بخير.. كل عام وأشقاؤنا فى الوطن أهلنا وأحباؤنا الإخوة المسيحيون بخير.