تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل، أنه قد حان الوقت لنهش أرض العرب بعد استنزاف ثرواتهم ودمائهم، ظنًا منهما أن العرب فى أضعف حالاتهم بعد حوالى سبع سنوات كاملة قضوها فى أرض التيه فى الثورات والانفلاتات والصراعات والفتن الداخلية والمؤمرات الخارجية. ومن هذا المنطلق أعلن دونالد ترامب الرئيس الأمريكى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل المزعومة، وهو القرار الذى لم يجرؤ على اتخاذه خمسة رؤساء أمريكيين سابقين؛ حيث جرت العادة أن هذا الاعتراف جاهز ومكتوب فى درج مكتب البيت الأبيض، ويخرج من الدرج مرةً كل عام ليتم مد تأجيل إعلانه عامًا آخر، حفاظًا على المصالح الأمريكية فى المنطقة العربية، بل وحفاظًا على أمن إسرائيل نفسها.
فما الذى تغير فى المعادلة الأمريكية - الإسرائيلية؟ وما سر توقيت إعلان هذا القرار الذى لن يغير شيئًا على الأرض؛ ففى كل الأحوال فلسطين كلها دولة عربية ترزح تحت الاحتلال الصهيونى منذ نكبة ١٩٤٨.
فى رأينا أن القرار تم اتخاذه لكسر الإرادة العربية الفلسطينية بتحرير المسجد الأقصى بالطرق والوسائل الدبلوماسية السلمية، وفى القلب منها ما كان يُطلق عليه عملية السلام، التى تم إطلاقها منذ اتفاقيات أوسلو ومؤتمر مدريد فى تسعينيات القرن الماضي، ولم تسفر عن أى شىء بالنسبة للفلسطينيين أو إنشاء دولة مستقلة لهم، ورغم ذلك أعلن العرب فى أحد مؤتمرات القمة، أن السلام هو الخيار الاستراتيجى لهم، وهو الخيار الذى لم يسفر إلا عن وهم كبير أو على الأقل يبقى الوضع على ما هو عليه، بآلية فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والأمم المتحدة والعالم أجمع.
إن قرار ترامب كان طلقة الرحمة التى أطلقها الرجل على عملية السلام، والسم الهارى الذى حقن به الخيار الاستراتيجى للقادة العرب، والنار التى أحرق بها أغصان الزيتون التى استُقبل بها السيد المسيح على أبواب «أورشليم»، ومنع صوت «بلال» من الأذان فى المسجد الأقصى، عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب القدس، وأمر بلال بأن يؤذن للصلاة، وهى المرة الأولى والأخيرة التى أذن فيها بلال بعد وفاة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
إن قرار ترامب كتب نهاية عملية السلام، مَن يريد منكم السلام - حكامًا أو محكومين، عربًا أو مسلمين، إسرائيليين أو أمريكيين - فإن السلام قد مات وشُيع إلى مثواه الأخير إلى غير رجعة، ولن تقوم قيامته مرةً أخرى، ولن يُبعث من مرقده، كفانا سلام الشجعان وسلام الجبناء وسنظل للسلام أوفياء؛ فكل هذا لا يجدى مع سارقى الأوطان، فلا تعجبوا أن الولايات المتحدة أقامت دولتها على جثث الهنود الحمر، وأن إسرائيل أقامت دولتها المزعومة على أرض فلسطين العربية، كلاهما سرق وطنه من الغير. آن للعرب أن يثبتوا لأمريكا وإسرائيل أنهم ليسوا الهنود الحُمر وأن زعماءهم لا يرتدون تاجًا من الريش ويلونون وجوههم بشتى الألوان كما كان يفعل زعماء القبائل البدائية.
أما سر توقيت قرار ترامب، فيتمثل فى تراجع الموجة الأولى من بث الاضطراب والتفكك بما كان يُطلق عليه «ثورات الربيع العربي»، وتمويل وتسليح الجماعات الإرهابية والمتطرفة من قبل أمريكا وتركيا، وعلاج مصابيهم فى مستشفيات إسرائيل، ولا شك أن تراجع خطر «داعش» فى سوريا والعراق، وتراجع سطوة جماعة «الإخوان» الإرهابية فى مصر وتونس، وتماسك القوات المسلحة المصرية ووقوفها أمام محاولات تفكيك الدولة المصرية، هو ما قام بتسريع عملية إصدار قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، بغية الإيقاع بين الشعوب العربية وحكامها، وإطلاق الفوضى فى الشارع العربي، وحسنًا فعلت مصر حين أعلن الرئيس رفض قرار ترامب وما يترتب عليه من آثار، ورفض وزارة الخارجية المصرية للقرار باعتباره منافيًا للشرعية الدولية، علاوة على دعوة مصر وعدد من الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة لجلسة طارئة لمجلس الأمن الدولى لبحث القرار.
لقد آن الأوان أن يستمع الملوك والرؤساء والقادة والزعماء إلى صوت الشارع العربى، وينضموا إليه ويكونوا فى طليعته، حتى لا يتلاعب بنا الأمريكان مستغلين الفجوة الأزلية بين السلطة والشعب فى الدول العربية، وذلك حتى نفوت الفرصة على أمريكا فى دق الأسافين بين الحكام وشعوبهم لإثارة أجواء من الفوضى والاضطراب لصالح إسرائيل، بغية تقسيم الدول العربية إلى كانتونات صغيرة على أسس عرقية ومذهبية ودينية.
إن أمريكا وإسرائيل دولتان بلا تاريخ، ولا يعيان دروسه؛ لأنهم لا يهتمون بمطالعة صفحاته، واستخلاص عبره. إن أيام العزة والنصر قليلة لدى العرب، وهى لا تأتى إلا إذا كان الأمر يتعلق بعزتهم وكرامتهم، حتى لو كانوا فى أقسى حالات الضعف، عليكم أن تقرأوا عن يوم «ذى قار» ويوم «عين جالوت» ويوم «حطين» ويوم «السادس من أكتوبر»، كل الأعداء فى كل هذه الأيام المجيدة راهنوا على ضعف العرب وهوانهم، فما جنوا سوى الهزيمة والذل والعار على أيدى العرب. وسوف يأتى يوم «القدس» شئتم أم أبيتم، وعسى ترونه بعيدًا ونراه قريبًا.
آن للعرب أن يضموا أيديهم ويقلعوا عن خيار السلام الاستراتيجي، يكفى أننا ظللنا نمد أيادينا بالسلام لفترة تزيد على ربع قرن، ولم نجن سوى الذل والهوان والعدوان وإراقة الدماء والفوضى والصراعات وتدريب النشطاء والإرهابيين الذين عاثوا فى أرضنا الفساد، آن الأوان أن لا نولى وجوهنا شطر البيت الأبيض باحثين عن حل للقضية الفلسطينية مع أعداء العرب والمسلمين، ألم تكن نظرية «صدام الحضارات» لصامويل هانتنجتون هى التى أججت الصراع بين الولايات المتحدة والإسلام منذ تداعى الاتحاد السوفيتى فى أوائل تسعينيات القرن الماضي، ألم يطلق علينا جورج بوش الابن حربًا صليبية بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، ألم يذكر مستشار الأمن القومى لترامب أن الولايات المتحدة سوف تستأصل فيروس الإسلام من ١.٧ مليار مسلم كما استأصلت النازية والشيوعية من العالم..!
إن القدس باقية ولن تضيع، القدس كانت موجودة قبل إسرائيل، وستظل موجودة بعد إسرائيل، وليعلم الجميع أن الله معنا، وسينزل اليهود من صياصيهم وسيهزمون ويولون الدبر كما حدث لهم فى عهد النبوة، ونحن فى انتظار وعد الله ورسوله، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.