أتيح لى فى سان فرانسيسكو (شتاء ٢٠٠٩) رفقة متدربين صحفيين فى دورة الصحافة والعلاقات الدولية بأمريكا أن أُقارب مطبخ جريدة الولاية، كما محطتها المسموعة والتليفزيونية، اليوم الذى قضيناه بين أروقة الأقسام كان محملا بالمعلومات التى تشى بأهمية ما يقدمه الإعلام المحلى من متابعات إخبارية وخدمات يومية عاجلة وآجلة، ومقابلات حوارية مع مسئولى مؤسسات الولاية، الذين يمنحون الإجابات حول الأسئلة التى يستوجبها السير الجيد لأحوال الولاية، وتقدم الإذاعتان برامج تخصصية صحية واقتصادية ومجتمعية إضافة للمسابقات والترفيه.
فيما أتذكره أن ذلك اليوم الضاج بالحيوية والنشاط لديهم، والذى سبرنا فيه بفضولنا غور ومفعول الإعلام المحلى وأثره ومعوقاته، قد شغلته الانتخابات النصفية المتعلقة بالولاية، والأمطار الغزيرة التى ستستقبلها وجرى النقاش حول الترتيبات الواجبة لذلك.
لفت انتباهنا وخاصة بمحطتى الراديو والتليفزيون أن العاملين كانوا معدودين كُلّ بقسمه (على غير عادتنا كمؤسسات إعلامية تتكدس فيها الأيدى العاملة فى ذات القسم والتخصص)، وجهنا أسئلتنا حول الميزانية وموارد القناة، فكانت الإجابة أن الضريبة المستحقة على سكان الولاية تدفع عن قبول ورضا كرسم اشتراك، وأن المرفق يوظف ويعين حسب الكفاءة والقدرات بموازاة الحاجة لشغور المكان المطلوب ليس إلا، ومع توكيد مدير القناة أن الإعلام المحلى يدعم المجتمع المدنى، كما أنه يُضعف ظاهرة الفساد التى تتفشى عادة فى مؤسسات مجتمعات محلية بعيدة عن مركز القرار، ويصيرالإعلام المحلى متابعا وكاشفا، ومدافعا محرضا للرقابة والمحاسبة.
وفى تاريخ الإعلام الليبى خمسينيات القرن الماضى بما طالعنا كأجيال لاحقة فى المجال- ما تم ألغاؤه أول السبعينيات للأسف- كانت للولايات جرائدها كما إذاعاتها المسموعة ولاحقا تليفزيوناتها، وكمثال جريدة «برقة» لولاية شرق ليبيا، كما جريدة الجنوب «فزان»، وولاية غرب البلاد جريدتها طرابلس الغرب (التى كانت قد صدرت عام ١٨٦٦م)، وتؤدى دورها كصلة وصل إخبارية فى كل المجالات، كما المعلومات الحكومية التى يحتاجها المواطن، وكانت الأقلام تمارس حريتها فى الرأى نقدا، ورقابة، وجدالا، إيصالا للحقيقة، وقد وُثق للصحافة دورها كمعارضة لها صوتها الوطني.
ما جعل تلك الاستعادة الحديثة والقديمة مدخلا للكتابة حول أهمية الإعلام المحلى ما عكسه برنامج «مؤسسة إعلاميات مصر»، والذى تشرفت بحضور احتفاليتها الثرية والمفيدة منتصف الأسبوع الماضى إذ حوت جلسة نقاشية حول أوضاع الإعلام المحلى والتحديات الراهنة وفق تجارب جرى عرضها ضمن تدريب مكثف تحت عنوان «صحافة العمق المحلى» استهدف ما يقارب ١٥ إقليما بمصر، وقد عُرضت أفلام صحفية استقصائية لمتدربات ومتدربين خاضوا فى أقاليمهم بحثا عن إجابة لمشكلة مثلت ظاهرة جديرة بتتبعها، وقد نجحت الأفلام رغم الإمكانات البسيطة فى الإحاطة بأسباب تلك الظواهر، كما واقتراح المعالجات لها بالاستعانة بآراء الخبراء والمختصين، ولم يغب الشارع بالأقاليم المعنية عن تقصى المتدربين الصحفيين ما جعل رسالتهم التى فحواها ما يعانيه الإقليم، وضرورة النظر فى حل لمشكلاته جزءا مما يستلزم أن يضطلع به الصحفى المحلي.
وفى الحلقة النقاشية طالبوا ملحين من قدموا أوراقهم بضرورة أن يكون الإعلام المحلي بالمستوى المنشود، وليس كما هو عليه الحال، وعبروا عن هواجسهم العامة نتيجة التحديات التى بدأت تفرزها عولمة الاتصال والثقافة وما قد تؤدى إليه من أخطار، ومنها إضعاف القضايا المحلية لصالح المركز، حيث عزوف خريجى الصحافة والإعلام بالأقاليم عن العمل لصالح أقاليمهم وسعيهم الحثيث للتوجه فور تخرجهم إلى العاصمة، فالمغريات التى تحقق استقرارا وظيفيًا لا تتوافر بمناطقهم، كما نقص التدريب وتكافؤ الفرص يمثلان تحديا آخر، وبالخصوص تواجه الصحفيات ظروفًا تشتبك بنظرة مجتمعهن للمهنة.
من خلال حضورى واستماعى للنقاشات الجادة التى فُتحت بين الأساتذة المُدربين والصحفيين المتدربين، سواء فى المتن أو على الهامش أتمنى أن تتعدد هذه اللقاءات فى العاصمة والأقاليم أساسًا لطرح أهمية ودور صحافة العمق المحلية.