تدور أغلب السجالات السياسية فى اللحظة الراهنة، حول تفسير أزمة انهيار النظام الإقليمى العربى، وصولا لدهس الشرعية والقانون الدوليين، والسطو على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى، لكن ما بين التباين والتعارض فى الآراء حول تفسير الأسباب المشحونة فى الأغلب بإدانات جاهزة لقرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس، تظل هناك أمور مستترة، داخل نفس كل من يدلو بدلوه فى السجال الدائر، إما خجلًا مما يسمى «الربيع العربى»، وإما ألمًا من حالة الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة، وانشغال بعض أنظمة الحكم بمشكلاتها الداخلية، وما تحويه أوضاعها من سوء فى النواحى الأمنية، والاقتصادية، والانقسام الفلسطينى، و.. و.. إلخ.
حالة الوهن التى تمر بها المنطقة لا يمكن استثناؤها بعيدا عن تداعيات التفاعل العشوائى مع مخططات الفوضى، التى جرى الترويج لها إعلاميا بمصطلح «الربيع العربى»، ما جعل المنطقة على امتداد خريطتها الجغرافية مسرحا للحروب الأهلية، التى بدأت بغطاء ثورى شعاره إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، وتحت هذه اللافتة الخادعة، جرى، وما زال يجرى تنفيذ مخططات تدمير الجيوش واستنزاف قدراتها، إما فى حروب أهلية أو فى مواجهات دامية مع جماعات الإرهاب، بهدف إسقاط تلك الدول، ولم تنته بالقرار البلطجى الذى تسعى أمريكا من خلاله، تهويد مدينة القدس، واعتبارها عاصمة لكيان غاصب.
من تداعيات الربيع المزعوم، الإرهاب الأسود الذى راح ينهش فى جسد المنطقة العربية، ويعوق تطلعاتها، بفعل تواطؤ إقليمى داعم لمخططات استراتيجية معلنة، عكفت على إعدادها حكومات وأجهزة استخبارات ومراكز دراسات، بهدف تمزيق المنطقة إلى دويلات صغيرة هشة قائمة على أساس عرقى ومذهبى وطائفى، بما يضمن تفوق الدولة العبرية على محيطها الإقليمى.
الواقع العربى، الآن، أشبه بلوحة سريالية عصية على الفهم، به دول عاجزة، وأخرى تمر بظروف اقتصادية متردية، كما صار معلوما للكافة أن هناك أنظمة حكم متواطئة مثل حكام قطر ساهموا فيما وصلت إليه البلدان العربية من ضعف وتمزق، وأوضاع داخلية مضطربة وظروف اقتصادية بائسة، فعلى خلفية الربيع العربى، انفجرت اضطرابات هنا، ودارت حروب هناك، فاختلطت أوراق المنطقة، حيث تحولت سوريا من حال الدولة المؤثرة والفاعلة فى الشأن الإقليمى، إلى حال لم يعد خاف على أحد، أنهكتها الحروب، وصارت قبلة لتجاذبات إقليمية وتحالفات دولية، وهى إحدى دول الطوق، وطرف رئيسى فى معادلة الصراع العربى الإسرائيلى، لديها أراض محتلة، بالضبط مثل الأراضى الفلسطينية، ومنها القدس التى تتعرض لأبشع وأحط عملية تزوير فى التاريخ الإنسانى بفعل البلطجة الأمريكية.
فواشنطن مهما تغيرت أو تبدلت إداراتها من الجمهوريين إلى الديمقراطيين أو العكس، ومهما كان اسم قاطن البيت الأبيض فلن تتراجع عن تنفيذ مخططاتها الاستراتيجية فى المنطقة العربية، وإن حاولت تجميل صورتها القبيحة، أو حاولت غسل سمعتها السيئة فى الأوساط العربية، عبر إعلانها مواقف شكلية «بروتوكولية»، للاستهلاك الإعلامى فقط، منها على سبيل المثال التخلى عن دعم الدول الممولة للإرهاب، وهى مواقف قائمة بالأساس على التكتيك، حسبما تقتضيه ظروف المرحلة الراهنة، فالولايات المتحدة حققت جزءا من مخططاتها، عبر إرباك المنطقة وإدخالها فى دوامات الاقتتال الداخلى «العراق، وسوريا، واليمن»، أنهكت الجيوش فى حروب طويلة، وأنعشت من خلالها خزائنها بمئات المليارات، الناتجة عن تجارة وتهريب السلاح، لكل الأطراف المتصارعة، وعندما استشعرت غضبا دوليا على الإرهاب، راحت تلعنه وتلعن من يدعمه، وكأنها بتلك التصريحات تغسل يديها الملوثة بدماء الضحايا من كل الأطراف، فهى التى دبرت لكل ما جرى، بهدف إعادة رسم الخرائط الجغرافية، بما يحقق لها الهيمنة على العالم، باعتبارها القطب الأوحد والراعى الرسمى والتاريخى لأمن ومصالح الدولة العبرية، وبعد أن تحقق لها جزء مما تريد، أصدر «ترامب» قراره، وهو بالمناسبة لم يكن وليد المصادفة أو اتخذه فى نوبة جنون، كما «يهرى» رواد «الفيسبوك»، فهذه الخطوة، كانت أحد أهم وعوده أثناء حملته الانتخابية، أى قبل وصوله للبيت الأبيض.
لا يمكن لأحد إنكار الحقيقة، ومفادها بأن قرار الرئيس الأمريكى وضع أنظمة الحكم العربية ومن بينها مصر، فى مأزق سياسى خطير للغاية، خصوصا مع اتساع مساحة الضبابية، وما تحويه من متناقضات فى الداخل الفلسطينى، رغم الجهود التى بذلتها ولا زالت تبذلها مؤسسات الدولة المصرية لإجراء المصالحات بين الفصائل الفلسطينية المتصارعة على السلطة، خصوصا بين فتح وحماس، لكن بين كل مصالحة وأخرى تتم مصالحة بين تلك الأطراف، ويكمن إصرار مصر على إنجاح تلك المصالحة، لأن دورها محورى ورئيسى وتاريخى فى الصراع العربى الإسرائيلى، رغم وجود اتفاق سلام مع الدولة العبرية، فضلا عن نواح أخرى، فى مقدمتها حساسية القضية الفلسطينية التى تتعاطف معها الشعوب العربية والإسلامية، إذ تنظر إليها الأغلبية الساحقة فى العالم العربى كقضية رئيسية ومحورية، لكن كثيرا من العقبات كانت تواجه محاولات توحيد الصف الفلسطينى، بعد تورط «حماس» فى الكثير من الجرائم الإرهابية على الحدود المصرية، فضلًا عن إقامة معسكرات للتدريب على الأعمال المسلحة الموجهة داخل سيناء.
لكن ما بين هذا وذاك، لا يمكن إغفال ضرورات المواءمات السياسية، المرتبطة بدواعى الأمن القومى العربى بصفة عامة، والمصرى على وجه الخصوص، إلى جانب الاعتبارات التاريخية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، ساهم فى حساسية موقف الدولة المصرية تجاه «حماس»، خاصة إذا علمنا أن المواقف الرسمية تسير وفق رؤية استراتيجية، ولا تقوم على الانفعالات أو ردود الأفعال، باعتبار أن القضية الفلسطينية لا تمثل شأنا فلسطينيا خالصا، لكنها الأكثر حضورًا وطغيانًا على ما سواها لدى المصريين، فالدولة المصرية دخلت الحروب من أجل تلك القضية، عام ١٩٤٨ و١٩٦٧، ثم حرب السادس من أكتوبر، ودفعت مصر أثمانا باهظة جراء تلك الحروب، لا زلنا نعانى منها حتى الآن، وهى التى أدت إلى تدنى الأوضاع الاقتصادية، كما أن الدولة ما زالت تضع قضية فلسطين والقدس على رأس أولوياتها فى المحافل الدولية. لذا فإن التعامل الرسمى مع هذا الشأن ربما لا يكون متناغما مع الهوى الشعبى، أو متسقا مع مزاجه العاطفى، باعتبارها قضية تمثل أولوية مطلقة لدى الكافة، فالموقف الرسمى، أكرر مرة أخرى، الموقف الرسمى، محكوم بمعطيات، ومحكوم، أيضًا، باعتبارات سياسية على المستويين الإقليمى والدولى، ولا ينتج بصورة انفعالية، بل يأتى متسقا مع استراتيجية الدولة ووفق مسئولياتها القومية والتاريخية تجاه تلك القضية.
هذه الاعتبارات لا تنفى حقيقة الواقع الملموس داخل الأراضى المحتلة، وهو الواقع الذى يؤكد، وهذه هى المصيبة الأكبر، حالة الانقسام فى الصف الفلسطينى، فالفلسطينيون سواء المواطنون العاديون، أو المنخرطون فى المنظمات والفصائل المتنوعة، يعلمون قبل غيرهم، أن الانقسام لا يصب فى صالح القضية الفلسطينية، وقد آن الأوان لكى تتوحد الجهود والصفوف لأجل تحرير الأرض من دنس الصهاينة.