قرار دونالد ترامب لم يكن مفاجئًا للعرب والمسلمين، فموعد إعلانه معلوم للحكام قبل الشعوب، وردة الفعل الرسمية الباهتة والتى لم تخرج عن حيز الشجب والإدانة لم تكن مفاجئة هى الأخرى لكنها نتيجة طبيعية لما آلت إليه الأوضاع فى المنطقة، حتى أن أى قرار عنترى منفرد أصبح يشكل خطورة على متخذه وعلى الدولة التى يتولى إدارتها، لذلك علينا ألا نعول على شىء من هذا القبيل، أما الغضب الشعبى فسوف يتنامى على شبكات التواصل الاجتماعى تارة باتهام الحكام بالتواطؤ وأخرى بالهتاف ضد أمريكا وإسرائيل، وقد استعد الطرفان لتلك الغضبة.. شبكات التواصل وأمريكا وإسرائيل، فالأولى فتحت ساحاتها للمدونين، والثانية راهنت على واقع عربى وإسلامى أسمته «الربيع العربى» استعدادًا لتلك الخطوة التى يعقبها خطوات أخرى ربما تكون أكثر مهانة، لذلك لن يجدى معها هتاف أو تهديد أو حتى اشتباكات سبق الاستعداد لها، فنحن العرب والمسلمين تم تجريبنا منذ إضرام النيران فى المسجد الأقصى لتكتشف جولدا مائير أننا نغط فى النوم فذهب قلقها وخوفها حيث اعتقدت أن نار المسلمين سوف تأكل الأخضر واليابس فى إسرائيل.
قرار ترامب لم يحمل جديدًا، لأن ما قاله أقره الكونجرس منذ ٢٢ عامًا، لكن من سبقوه لم يوقعوا عليه أو يفعلوه خوفًا من هبة العرب والمسلمين عندما كانت القضية الفلسطينية على رأس أولوياتنا، وقبل أن ننشغل عنها بقضايانا الداخلية، كما أن القرار يحمل حلم إسرائيل منذ عام ١٩٧٢، لكن هزيمة أكتوبر أجلت تحويله إلى واقع ولم تجهضه، وطوال تلك الفترة كانت وعود ٢٢ ما بين رئيس ومرشح فى الانتخابات الأمريكية بتحقيق الحلم ضمن الوعود الرئاسية لكسب تأييد اللوبى اليهودى، ولم يجرؤ أحد منهم على تنفيذ الوعد، فقط مهدوا للقرار بدأب مستمر على تفتيت العرب وبث الفتنة بين المسلمين.
قرار ترامب جاء بمثابة طوق نجاة لعدة أطراف فى مقدمتها ترامب نفسه ثم نتنياهو ثم بعض الحكام العرب، فترامب ضمن البقاء بعد أن اهتز كرسيه كرئيس لأمريكا، خاصة أن تدخل روسيا فى الانتخابات الأمريكية أصبح حقيقة واضحة أعلنتها جهات التحقيق، واللوبى اليهودى استغل نقطة ضعفه ليحقق لإسرائيل حلمها المؤجل، كما أن نتنياهو وهو الطرف الثانى كان يعانى تراجعًا شعبيًا هو وحكومته التى تضم سبعة وزراء من اليمين المتطرف، لذلك وجد ضالته فى قرار ترامب على الرغم من أن البعض فى الداخل الإسرائيلى يقللون من قيمة القرار لأنه لم يتضمن ترسيمًا للحدود، وأنه ألزم إسرائيل بإبقاء الوضع على ما هو عليه مؤقتًا.أما الطرف الثالث والمتمثل فى بعض الحكام العرب الذين مارس عليهم ترامب دور الفتوة أو البلطجى فابتزهم ماديًا ليحسن أوضاعه الداخلية، ثم أجج الفتنة بينهم مستغلًا ضعفهم أمام شعوبهم، ثم غض الطرف عن استخدامهم للقوة وكبت الحريات لتتسع الفجوة بينهم وشعوبهم، ثم جعل لكل منهم بديلًا يلوح به كلما استشعر تغييرًا فى مواقفهم، ثم حولهم إلى فريسة تنقض عليها شعوبهم إذا فقدوا مقاعدهم، ثم جعل من إيران ماردًا يرغب فى اجتياح المنطقة ليزيد من مخاوفهم، كل ذلك أصاب بعض الحكام بالخرس وحولهم إلى دمية فى يد الفتوة الأمريكى.
أمريكا لم تر داع لتأجيل قرارها أكثر من ذلك، فما كان الربيع العربى سوى خريفًا مزق الدول فصارت بقايا واستنزف مواردها وكسر شوكة جيوشها وأضعف حكامها، وما كانت تلك الأوضاع سوى جزء من مخطط لربيع إسرائيلى، هبت أولى نسماته بقرار ترامب، أما الذين يتحدثون عن الدور المصرى.. فعليهم أن يضعوه فى إطار أكبر، لقد بذلت مصر الغالى والنفيس من أجل القضية الفلسطينية، لذلك يجب أن يكون دورها الحالى فى إطار دور عربى إسلامى، فمصر فطنت منذ البداية للمخطط لأنها كانت تعرف النتيجة، فنصحت الجميع وحاولت السعى للملمة ما تبقى من الدول العربية، فرفضت المشاركة فى حرب اليمن، وطالبت بحل سلمى فى سوريا، ورفضت إعلان الحرب على إيران أو تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية، ومصر التى عانت من بعض الفصائل الفلسطينية.. تحاملت على نفسها وسعت لمصالحة بين الفصائل. مصر جزء من المخطط ضد العرب، وعليها أن تحافظ على جيشها وتماسكها.. فلا تضعوها إلا فى الإطار الذى يفرضه الواقع، هذا الواقع الذى تحدث عنه ترامب ونتنياهو عقب القرار المشئوم، واقع فرضته أمريكا وإسرائيل، وحذرت مصر كل العرب من عواقبه منذ سنين.