كنت أشاهد قبل كتابة هذا المقال فيلمًا لثنائى السينما المصرية.. فريد شوقى ومحمود المليجي.. وكعادة أفلامهما، كان يتقاسم البطولة رجلان.. الأول: رجل استولى الشيطان على عقله وقلبه، وزرعهما بالشر والدهاء.. والثاني: رجل طيب يُؤمن بالخير، وبالحب بين الناس.. وتمضى الأحداث، حتى يرتكب الرجل الذى ملكه الشيطان جريمة قتل، ثم يُرتِّب مسرح الجريمة؛ بحيث يُلقى بالتهمة على الرجل الطيب.. وتتسارع وتيرة الأحداث حتى تصل إلى ذروة إثارتها؛ فتحيط الشبهات بالرجل الطيب من كل جانب، وتُطبق عليه الرِّيب، وتلاحقه نظرات الشك، حتى تُودِعه قفص الاتهام.
فيكاد يُـجن.. ينكر وينكر.. ويُلحُّ فى إنكاره.. فلا يجد سامعًا أو مصدقًا، حتى ممن كانوا أقرب الناس إليه.. يحاول أن يتخلص من خيوط العنكبوت التى وقع فى شِراكها، فلا يستطيع.. كانت كلما دفعها جذبته إليها وأمسكت به.. فلقد برع الرجل الشرير فى تلفيق الأدلة وإحباك الشواهد، فلم يستطع المسكين منها فِكاكًا.. حتى تملَّكه اليأس، واختلطت معالم الحق فى وجدانه بمعالم الباطل الذى دُسَّ عليه.. وتحت ضغط الإلحاح وشدة الحصار، كاد أن يعترف على نفسه بجريمة لم يرتكبها، بل لم يفكر يومًا فى ارتكابها!!
وقديمًا – حينما كنت طفلًا لم أتجاوز الثانية عشرة من عمرى – كان يُـحكى لى أن رجلين اشتركا فى تجارة، وكان أحدهما طيب القلب، أما الآخر فقد انطوت نفسه على كثير من الشر.. وذات يوم بينما كانا عائدين من تجارة لهما، وجد الطيب منهما كيسًا به ألف دينار ذهبية.. ففرح بذلك، ولم يُرد أن ينفرد به دون شريكه فقرر أن يقتسمه معه.. وحينما رأى الشرير المال، طمع فى أخذه كله.. فأراد أن يحتال على شريكه.. فقال له: لماذا لا يأخذ كل منا ما يكفيه، ثم نُخبِّئ المال تحت هذه الشجرة الكبيرة.. وكلما احتجنا شيئًا جئنا معًا وأخذنا منه ما يكفينا؟.
وافق الطيب على اقتراح شريكه، ودفنا المال بعد أن أخذا منه ما يكفيهما، وتابعا طريقهما.. ثم لم يلبث أن عاد الشرير وحده، وأخذ الكيس كله.. وبعد مدة من الزمن، جاء الطيب إلى شريكه، وقال له: إنى أحتاج بعضًا من المال، فقال له الشرير: هيا نذهب حيث دفنا المال، لتأخذ ما يكفيك منه.
فانطلق الشريكان إلى الشجرة، ولكنهما لم يجدا كيس المال، فتظاهر الرجل الشرير بالحزن، وأخذ يضرب على وجهه متهمًا صاحبه بأنه قد سرق الكيس.. أما الرجل الطيب، فقد أنكر السرقة، وراح يحلف الأيمان على صدقه، وحاول أن يُذكِّره بأنه هو الذى وجد الكيس، وأنه هو الذى أراد من تلقاء نفسه أن يقتسماه.. ولكن الشرير كذَّبه، وقال له: سوف أذهب إلى قاضى البلدة وأشتكيك إليه.. فجعل الرجل الطيب يضرب كفًّا على كف ولسان حاله يقول: (سرقنى وبكى.. وسبقنى واشتكى).
وبعيدًا عن حبكة الدراما وخيال الحكايا، فمثل ذلك له من الواقع نصيب كبير.. والمشكلة لا تكمن فى ارتكاب الجريمة، بقدر ما تكمن فى إحباك المكائد من أجل إلصاق التهمة ببريء.. وصدق الله إذ يقول: «وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا».. إن التدليس وقلب الحقائق جريمة لا تغتفر.. لأنه يؤدى إلى خداع الناس، فيختلط عندهم الحق بالباطل، ويلتبس الصواب بالخطأ، حتى لا يمكن التمييز بينهما.. فويل لمن يُلبسون الحق بالباطل وهم يعلمون.
ومهما يكن، فليس هناك حياة خالية من الشرور.. وإذا كان للحياة جانب مظلم، لا مفر من وجوده وليس فى الإمكان تغييره.. فإنه يظل فى الإمكان أن نتركه ونعيش فى جانبها المضيء..