رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الصورة وتزييف الواقع «6»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُوصف فكر ما بعد الحداثة بأنه فكر جمالى يُعلى من شأن القيم الجمالية بوصفها بديلًا معاصرًا للعقلانية، ومن الجسد والرغبة بديلًا للعقل والفكر، ومن الصيرورة والاختلاف بديلًا لقوانين الهوية وعدم التناقض. لقد رأى هذا الفكر، أن إخراج الإنسان من النسق الذى حوله إلى ماهية عقلية مجردة، يمكن أن يتحقق خارج لغة المنطق وأسوار العقل؛ وذلك بالعودة إلى الفن واللغة. وقد أكد «رولان بارت» فى بحثه (بلاغة الصورة) أن الأحكام الكلية تنبثق غالبًا من منظومة فكرية مكتملة أو من تكوينات منطقية تدعى الشمول، ثم تصير سجينة النظرة المقعرة التى تشكلها هذه النظم. ووفقًا لهذا الفهم؛ فإن المفكر لا بد أن ينطلق من إشكاليات جزئية يحاول الإجابة عنها إجابات جزئية لا تدعى الشمول، ومن هنا يدعو «جيل دولوز» لصورة جديدة للمفكر والمثقف، صورة أكثر واقعية وأكثر التصاقًا بالحياة. «لقد صار المثقف- كما يقول دولوز- يتقلب بين أمكنة نوعية ونقاط فردية... وبات قادرًا على أن يتكلم لغة الحياة، بدل لغة الحق». فى هذا السياق، يرى «فوكو» أن كل نص فلسفى عليه أن يعطيك- فى نهاية المطاف- معنى الحياة والموت، ويقول لك: هل الله موجود أم لا؟ وما الحرية؟ وما ينبغى عمله فى الحياة السياسية؟ وكيف تتصرف مع الآخرين؟». 
انحاز «فوكو» إلى طرائق اكتشاف البنية المعرفية أو الخطاب المعرفى السائد خلال كل فترة زمنية، كما تحدث عن المؤسسات الاجتماعية والثقافية المهيمنة، وكان مهتمًا بالأشكال المختلفة للسلطة فى المجتمعات الحديثة. وفى كتابه «المراقبة والمعاقبة»، تحدث عن الفحص، فقال: إنه يدمج التقنيات التى تراقب وتقنيات العقوبة التى تضبط. إنه نظرة ضابطة وهو رقابة تتيح التوصيف والتصنيف والعقاب. إنه يقيم على الأفراد رؤية يمكن من خلالها المفاضلة بينهم ومعاقبتهم. ويغطى مفهوم الفح - عند «فوكو»- كل ما يحدث خلال عمليات فحص المرضى فى العيادات والمستشفيات، وفحص المساجين فى السجون، وفحص التلاميذ فى المدارس، والجنود فى معسكرات الجيوش، وغير ذلك من المواقع التى تجرى فيها عمليات الفحص التى تُحول الإنسان إلى شيء أو رقم أو موضوع مناسب للرؤية والعرض والتقييم. إن تحليل عمليات الفحص هذه توضح العلاقة بين الضوابط أو القيود الاجتماعية والسياسية وسلطة النظرة المحدقة أو قدرتها الخاصة على تحويل البشر إلى موضوعات تجرى مراقبتها وعقابها عند الضرورة. ومن خلال النظرة المحدقة، وكون المرء دائمًا موضوعًا وهدفًا لهذه النظرة، يجرى التحكم فى سلوك المجرمين وتأهيلهم، ومن ثم تصبح النظرة المحدقة الخارجية بعد ذلك نظرة محدقة داخليًا، أى يصبح السجين هو السجان هو المراقَب والمراقِب، وقد أصبحت هذه الآلية أو هذه المنظومة الخاصة بالمراقبة والعقاب جزءًا من الفكر البصرى فى العالم الحديث.
وانطلق «جيل دولوز» من مفهوم «فوكو» بأن عملية المعرفة والتفكير تنشأ من خلال ارتباط عالم الرؤية أى عالم الصور، بعالم الكلام أى عالم اللغة؛ وكل عالم من هذين العالمين له استقلاليته الذاتية وميدانه الخاص. وقد احتلت إشكالية العلاقة بين ما هو مرئى وما هو مكتوب، أو النص- الصورة، مكانة مهمة فى التراث الغربي؛ واتخذت أشكالًا عدة وفقًا للحقول المعرفية التى تمت مناقشتها، ففى الإبستمولوجيا المعاصرة، كان السؤال عن الكيفية التى تتم بها عملية المعرفة واكتساب الوعي. أيهما يمتلك الأولوية والسيادة على الوعي. اللغة أم المرئي؟ هل التفكير يتم بواسطة اللغة؟ أى هل العقل يُترجم كل ما يراه إلى لغة؟ ودون هذه العملية تفقد الأشياء دلالاتها، أم أن المرئى له لغته الخاصة التى تتجاوز أية صياغة لغوية وتعلو عليها؟ هل اللغة تستوعب ما هو مرئى بحيث تنوب عنه فى غيابه؟ أم أنها مجرد قوالب وصياغات تحفز الذهن على استحضار الصورة والمشهد؟
وفى كتاب «دولوز». عن «فوكو»- المعرفة والسلطة- يتحدث «دولوز» بتوسع عن إشكالية العلاقة بين نظام المرئيات ونظام العبارات، ويرى أن كلا منهما له عالمه المستقل والمتمايز، وليس هناك أولوية لأحدهما عن الآخر، وإن ما بين الكلام والرؤية- أو ما يُرى وما يُعبر عنه- ثمة انفصال، فما يُرى لا يجد موقعه إطلاقًا فيما يقال، والعكس صحيح. ولعل «دولوز» بهذا المفهوم يعبر عن رفضه لأطروحة «بارت» التى ذهب فيها إلى «أنه من الصعب تصور نسق من الصور أو الأشياء تستطيع مدلولاتها أن توجد خارج اللغة، فلا وجود للمعنى إلا باللغة، وعالم الدلالة ما هو إلا عالم اللغة... إذن كل نظام دلالى يمتزج باللغة، والماهية البصرية تعضد دلالتها من خلال اقترانها برسالة لسانية؛ كالسينما والهزليات والصور الصحفية». لكن ينفى «دولوز» إمكانية أن تحل اللغة محل الأشياء، كما أن الصورة لا يمكن أن تحل محل اللغة، ولا توجد علاقة من أى نوع بين الصورة والنص، بين الكتابة وما هو بصري. وهذا الاستقلال لا ينفى وجود علاقة بينهما، لكنها ليست علاقة ترابط وتصالح، كما أنها ليست علاقة انفصال وخصام؛ إنها علاقة صراع وصدام تتم داخل عملية التفكير ذاتها بين المشهد البصرى واللغة. وفى هذا الإطار، يناقش «دولوز» العلاقة بين فعل اللغة والصورة فى السينما، ويرى أن هناك انفصالا بين كلا المكونين فى الصورة السينمائية؛ حيث تسير الأصوات فى جانب، بينما يسير المرئى فى جانب آخر. ولا يوجد تسلسل يتجه من المرئى إلى العبارة، أو من الأخيرة إلى المرئي.