«اسمعوا.. فكروا معى.. ماذا عساكم تفعلون لو كنتم مكانى حينها؟ وتذكروا أنهم منذ النشأة عمودنا فى إناء الخوف، لم يكن متاحا لنا سوى خيارين، وحذارى أن نمد أذهاننا إلى غير المألوف، فى الاختيار الذى لا نعرفه سيلتهمنا الحرام، وسيأمرنا الشيطان، وسيطاردنا الأمن، ويلعننا الشيوخ، حتى ألعابنا قبل التلفاز وثورة التكنولوجيا، كانت إما عسكر أو حرامية، أو نطة الإنجليز أو بخوا فيكوا»، وفى الأعياد لم يكن فى محال البقالة سوى ذقن وشنب أو مسدس مياه وخرطوش، ولا أنكر أننى كنت محظوظا بعض الشىء بأم قاهرية قذف بها الشوق إلى القرية، وأب أفندى ساقه الزمان إلى حجر أخواله أولاد ناظر المدرسة.
مع قرقعة صوت النارجيلة فى حوش البيت، ودندنة أمى، دلفت إلى غرفة أبى، حيث وريقات كانت تدسها أمى فى جلباب قديم، تعود لفترة وهج عاشتها القرية لشباب كانوا قد بحثوا عن خيار ثالث، اعملوا عقولهم وتحروا من الدقن والمسدس وحققوا انتصارات صغيرة ضاقت بها القرية، وإن ظلت باقية فى الوجدان، كان من بين هؤلاء الفتية خالى المتمرد.
قلبت فى الورق فإذ بى أجد ورقة له مكتوبا عليها «أحمد مات»، فردت الورقة بيدى وأخذت أقرأ، أحمد كان موظفا بسيطا يحلم بواقع مغاير، شاعر حتى النخاع يذبح مرتبه كل أول شهر، بأن يشترى لحما يطهوه ويجمع الأطفال، يطعمهم ثم يحفظهم شعره، وذات يوم نشبت نار فى منزل أحمد وهرع إليها أهل القرية وكان السبق لأطفاله، فإذا بهم يجدونه يقف وسط دائرة النار، وكان قد شكلها بكتبه على هيئة أسطوانة، وقف يردد أشعاره، ويرددها خلفه الأطفال.