تشكل حوادث العنف والإرهاب الأسود ظواهر مرضية مصاحبة لبنية العولمة المفترسة التى تتحكم فى المجتمع العالمى، فما الذى يفسر ظهور الفاشية فى ثلاثينيات القرن العشرين؟ ونشوء الراديكالية فى ستينيات القرن العشرين؟ وتنامى الإرهاب الإسلامى فى تسعينيات القرن العشرين؟ والإبادة الجماعية فى رواندا سنة ١٩٩٤؟ والصراع الإثنى فى يوغوسلافيا ووفى العراق؟ وأعمال التعذيب والإذلال التى مارسها الجنود الأمريكيون فى سجن أبو غريب؟ مع العلاقة بين الاستفسارات مع بعضها البعض.
نحاول الوقوف على أهم الإجابات التى يطرحها كاس ر. سينشتاين أستاذ القانون بجامعة هارفارد الأمريكية، ومؤلف العديد من الكتب التى تعالج قضايا التطرف والانقسام والديمقراطية والحرية، فى كتابه «الطريق إلى التطرف: اتحاد العقول وانقسامها»، والصادر مؤخرًا عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة، ونقلته إلى العربية سميحة نصر دويدار، كيف يظهر التطرف والاستقطاب بين الأفراد فى حياتهم الاجتماعية، ليس فقط فى التنظيمات الدينية، وإنما فى كل التجمعات بدءا من مجالس الإدارة حتى المجالس النيابية؛ حيث تعمل المناقشات والمداولات العلنية على دفع العقول إما إلى الاتحاد أو الانقسام فى ميول تطرفية ظاهرة.
عندما يتكلم الأفراد مع بعضهم، ما الذى يحدث؟ هل يقوم أعضاء الجماعة بتسوية خلافاتهم؟ هل يتحركون فى تجاه منتصف المسافة بين ميول الأعضاء المنفردين؟ الإجابة الآن واضحة، وهى ليست ما يوحى به الحدس أو البديهة. وهى أن الجماعات تذهب إلى الحدود القصوى للتطرف. وبتعبير أدق؛ فإن من المعتاد أن ينتهى أعضاء الجماعة الذين يتشاورون فيما بينهم فى مواقف متطرفة داخل الاتجاه العام للجماعة نفسه، وبصورة أكثر مما كانت عليه ميولهم قبل أن يبدأ هذا التشاور.
هذه هى الظاهرة المعروفة باستقطاب الجماعة. واستقطاب الجماعة هو النمط المعهود فى الجماعات المتشاورة فيما بينها. وهى ليست محصورة فى فترات تاريخية معينة، أو أمم معينة، أو ثقافات معينة.
فالإرهابيون يُصنعون، ولا يولدون، كما أن الغالب على الشبكات الإرهابية أنها تعمل هذه الطريقة نفسها. ونتيجة لذلك، يستطيع الإرهابيون أن يقوموا –بطريقة أخرى– بإقناع الأفراد العاديين بالأعمال العنيفة. بيد أن وجهة النظر هذه عن الاستقطاب تصدق تماما على ما هو خارج نطاق مثل هذه المجالات. إذ يحدث استقطاب الجماعة فى حيواتنا اليومية، فهو يطوى بين ثناياه قراراتنا الاقتصادية، وتقييماتنا لجيراننا.
وأوضح مارك سيجمان، وهو أحد المتخصصين فى دراسة الإرهاب، أنه فى مراحل معينة فإن التفاعل بين مجموعة من الأشخاص يعمل مثل الغرفة التى يتردد فيها صوت الصدى بطريقة تجمعهم بشكل راديكالى وتصاعدى يصلون إلى النقطة التى يكونون فيها على استعداد للانضمام لأى تنظيم إرهابى. وهذه العملية نفسها تحدث على شبكة الإنترنت. والقوة الرئيسية هنا ليست المواقع التى يقرأها الناس بشكل روتينى، ولكنها تتكون من الرسائل الإلكترونية المجمعة والمدونات الإلكترونية.
وعلينا أن نميز بين تفسيرين مختلفين للاستقطاب الجماعى، فيشير أحد التفسيرات إلى أن الاستقطاب يكشف عن المعتقدات والرغبات، ويذهب التفسير الأول إلى أن الناس فى كثير من الأحيان يملكون اهتمامات مكبوتة ومتجذرة بعمق، وهذه الاهتمامات لا تتحقق عادة على أرض الواقع.. وللحديث بقية..