اليوم يحتفل المسلمون فى ربوع الأرض بذكرى ميلاد النبى -صلى الله عليه وسلم، وكما يختلف علماؤنا فى كل شىء يختلفون أيضًا فى جواز الاحتفال بمولد خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام، فهناك من يحرم ذلك ويجرمه، بل ويكفر فاعله، وهناك من يحلل ذلك ويعظمه، وبعيدًا عن الخلاف والاختلاف الذى سالت بسببه الدماء وزهقت من أجله الأرواح، وصار الخصام والاقتتال سمة من سمات أتباع هذا الدين الحنيف، بعيدًا عن كل هذا دعونا اليوم نتوقف أمام شخصية النبى -صلى الله عليه وسلم- الذى أمرنا الله تعالى أن نقتدى به، فقال تعالى: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} (الأحزاب٢١)، وفى آل عمران، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}، انظروا معى وتأملوا كلمات الحب والمغفرة والرحمة التى هى مجمل خصال النبى -صلى الله عليه وسلم، والذى قال عن نفسه: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وهل من الأخلاق أن يظهر داعية عبر مواقع التواصل الاجتماعى فى فيديو يسب فيه ويلعن الناس ويكفرهم ويدعو لقتلهم، مستخدمًا كل الألفاظ القبيحة فى حديثه؟ هل كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك يا من تقتدى به فى ارتداء الجلباب وإطلاق اللحية؟ هل كان فاحشًا، بذيئًا، جبارًا، متكبرًا، وهل أمر بقتال من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لخلاف على السلطة؟ هل قتل النبى مسلمًا؟.. لقد كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يجمع ولا يفرق، يحب ولا يكره، ولن تجد له موقفًا فى حياته إلا وتغمره الرحمة، فهو القائل: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وهو القائل أيضًا: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه»، وهو القائل كذلك: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه»، وجاء فى صحيح البخارى أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وكان النبى يعفو عند القدرة ويحلم عند الغضب ويحسن إلى المسىء، حتى وإن كان على غير دينه، فقد روى أن زيد بن سعنة، وهو أحد أحبار اليهود، قد جاء إلى رسول الله يطالبه بدين له، فأخذ بجماع قميصه وردائه وأغلظ له القول وقال: «يا محمد، ألا تقتضينى حقى، إنكم يا بنى عبدالمطلب قوم مُطلٌ»، وكان عمر بن الخطاب واقفًا، فعنف اليهودى، وقال: «فو الذى بعثه بالحق، لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفى رأسك»، فنظر صلى الله عليه وسلم لعمر، وتبسم قائلا: «يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غيرك، أن تأمرنى بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضى»، أرأيتم إلى أى حد بلغت أخلاق النبى -صلى الله عليه وسلم، هل فينا من يفعل ذلك اليوم؟ وهذا الموقف إنما يدل على كثير من الأمور، منها أن النبى كان يقترض من اليهودى، وأن عمر لم يجرؤ على قتل اليهودى حتى وهو يعنف النبى. ويروى أيضًا أن أعرابيًا بال فى المسجد، فقام بعض الصحابة ليزجروه، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يتركوه حتى بال وانتهى، ثم أتى به وقال له فى حنو وهدوء: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هى لذكر الله والصلاة»، ثم أمر بدلو من الماء وطهر به مكان البول، وهو يقول: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، هذه بعض مواقف النبى -صلى الله عليه وسلم- وبعض صفاته التى تناسيناها، وحذفها البعض من الكتب المعاصرة للسيرة، والتى باتت لا تضم إلا أحاديث الجهاد والقتال، والتى هى موضوع اختلاف كبير، أما أحاديث الرحمة والرأفة واللين، فلا اختلاف فيها، وقد أكدها التاريخ، فيوم فتحت مكة وتمكن النبى من خصومه الذين حاربوه وقاتلوه وأجبروه على الهجرة، وظن الناس أن الفرصة قد أتت له كى يثأر لنفسه وأهله وأتباعه، فإذ به يقول: «لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء»، فترتب على هذا العفو العام الحفاظ على الأنفس بحقن الدماء ونشر ثقافة التسامح والعفو، والعيش فى مجتمع متعدد العقائد، فيا أيها الذين حملتم السلاح على المسلمين اقرأوا ولا تعتمدوا على شيوخكم الذين يريدونكم أداة لخدمة أهدافهم السياسية وأطماعهم، واقرأوا بأنفسكم ولا تجعلوا أحدًا يقرأ عليكم؛ لأن هذه المجموعات لا تسمح لأحد أن يقرأ وحده، بل هى النصوص تُقرأ عليه بواسطة الأمير أو الشيخ، وإذا سمح لأحد أن يقرأ أطلعوه فقط على كتب جهادية وفتاوى قديمة لابن تيمية وابن عبدالوهاب، ولم يخبره أحدهم بأن الفتوى متغيرة وفق الزمان والمكان والأحوال، وأن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «استفت قلبك ولو أفتاك الناس»، والقلب هو موضع الرحمة والرأفة والحب واللين، وكل هذه من خصال النبى -صلى الله عليه وسلم- والتى نتذكرها فى يوم ميلاده.
آراء حرة
نبي الرحمة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق