(3) صدمة التنوير وبواكير النهضة:
تكتشف مصر قدر الهوّة بينها - في ظرفها هذا - وبين العالم الغربي، مع الحملة الفرنسية التي تصل إلى شواطئ الإسكندرية في يوليو 1798 بقيادة نابليون بونابرت، وتجد الكنيسة المصرية نفسها في مواجهة القادم الجديد الذي لا يهدّد الوطن وحسب -وهي مكوّن عضوي فيه - بل يهدّد وجودها، عقيدة وإيماناً وتراثاً، خاصة مع تفاوت الإمكانات اللوجستية، فعلى هامش الحملة وجدت الإرساليات التبشيرية طريقها إلى المنطقة، فجاءت بشكل متواتر على امتداد القرن التاسع عشر تحمل معها أدوات عصرها، فضلاً عن منظومة فكر تدعو للتحرر والانفتاح، وتخاطب الناس مباشرة بقوة دفع قيم الحرية والمساواة، ولم تكن المنافسة بين القطبين الاستعماريين: فرنسا وانجلترا، بعيدة عن حركة الإرساليات وموجاتها المتتالية وتداعياتها الدينية والاجتماعية والثقافية أيضاً.
كانت الحملة الفرنسية تحمل متناقضين، فعلى الرغم من تأثر نابليون بمبادئ الثورة الفرنسية: الحرية، الإخاء والمساواة، إلا أنه لم يستطع أن يكسب ثقة المصريين الذين نظروا إليه كمستعمر، وتسبب في زرع النفور بين مسلمي مصر وأقباطها، بسبب مغالاته في معاداة الأقباط إلى حدّ تحقيرهم ومحاولة استمالة المسلمين، "حتى إن الأقباط كانوا يتمنّون رحيل هذا الأجنبي الذي لم يفدهم بشئ، بل كان وجوده يزيد كره المسلمين لهم" (جاك تاجر - أقباط ومسلمون - الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 ص 236)، على جانب آخر كانت مشروعات البنية التحتية التي شرعت الحملة في تنفيذها مثار انبهار المصريين، وأثارت جدلاً ظاهراً بين القديم والوافد الجديد، فضلاً عن شيوع أفكار الثورة التي روّجها العلماء المصاحبون للحملة والتي شكّلت إرهاصات عصف فكري لدى الشارع المصري.
يشهد القرن التاسع عشر توجُّساً من الكنيسة القبطية المحلية تجاه الإرساليات وتدور بينهما معارك ممتدّة تلجأ فيها الكنيسة للحاكم وتتحصن الإرساليات بنفوذ قناصل الدول الغربية، وهنّأ تنتبه الكنيسة إلى الخطر الذي يتهدّدها، وفي غضون العقدين الأخيرين من القرن تشهد تحرّكاً إيجابياً على الأرض عندما يتبنى البابا كيرلس الرابع (1854-1861م) خطة متكاملة لإعادة هيكلة المنظومة الكنيسة، سعياً إلى التواصل مع العصر والخروج من حالة الجمود والتراجع التي تعيشها، فكان أن أنشأ أول مدرسة معاصرة خارج منظومة المدارس الأميرية (الحكومية) التي كانت مقصورة على أبناء "الوجهاء"، فأتاح التعليم لعامة الشعب وبالمجان، فضلاً عن تحمّله تكلفة الكتب والأدوات المدرسية، وكان من أبرز خريجي المدرسة أربعة تولوا رئاسة الوزارة : بطرس باشا غالي (1908 ـ 1910)، حسين باشا رشدي، تولّى رئاسة الوزراء أربع مرات ما بين (1914 ـ 1919)، يوسف باشا وهبة (1919 ـ 1920)، عبد الخالق باشا ثروت، تولى رئاسة الوزراء لفترتين (من 1 مارس 1922 إلى 30 نوفمبر 1922، ومن 26 أبريل 1927 إلى 16 مارس 1928.)، وافتتح هذا البابا الرائع مدرسة لتعليم البنات للنهوض بالأسرة وإعادة الاعتبار للمرأة ودورها في التأسيس لبناء المجتمع، وفي هذه الأثناء تم افتتاح العديد من المصالح والهيئات الحكومية كمصلحة السكك الحديدية والبريد وغيرها، فكان اعتمادها بالأساس - في دولابها الوظيفي - على خريجي هذه المدارس، واتساقاً مع مسيرته التنويرية اشترى مطبعة لطباعة ونشر أدبيات الكنيسة وتراثها اللاهوتي والتاريخي بعد تدقيقها وتحقيقها وبعث حركة الترجمة والتعريب، وامتد دوره الوطني إلى إنهاء الخلاف بين مصر والحبشة، ويستمر دعم التعليم في مسيرة الكنيسة بعد رحيله، فتفتتح مدرسة للتعليم الصناعي الفني في المرحلة الثانوية بحي بولاق وقت أن كان ميناء نهرياً ومنطقة تجارية وصناعية حرفية.
من هنا تبدأ مرحلة جديدة في العلاقات البينية داخل الكنيسة والمجتمع القبطي، فقد بدأت رياح التنوير والتغيير تجد مكاناً لها، ومن ثم انتبه العلمانيون - المسيحيون من غير رجال الدين - وقد تقلدوا مناصب متقدمة في الدولاب الحكومي، وفي المهن والأعمال الحرة والخاصة، إلى الحاجة لضبط وتطوير مسار الكنيسة الإداري، تأسيساً على نسق الكنيسة الأولى، وبفعل التطورات التي استجدّت في العلوم الإدارية التي وفدت إلينا من الغرب بفعل الثورة الصناعية التي انتقلت من الكيانات الصغيرة والفردية إلى الكيانات الكبيرة والشركات بأنواعها، والتي استتبعها حتمية فصل الإدارة عن الملكية وانعكاس هذا على المؤسسات الكبرى الإنتاجية والخدمية، وطالت المؤسسات الدينية بطبيعة الحال، الأمر الذي لم تسترح له قيادة الكنيسة وأساقفتها، باعتباره مزاحمة لهم وتشكيكا في كفاءاتهم، وتصادماً مع النسق الأبوي المستقر.
وهنا تأتي بدايات التحرك العلماني القبطي، وخوض تجربة المجلس الملّي الذي نفسح له سطور المقال القادم.