الجنرال الحالم بزواج الشرق والغرب الذى لا نعرفه
يعرف الفرنسيون جيدًا، الجنرال بونابرت، ويعرفونه أكثر عندما أصبح الإمبراطور نابليون، ويعرفون بشكل لا بأس به خليفته فى مصر المغدور به الجنرال كليبر، ونحن أيضًا فى مصر نعرف الرجلين ويدرسهما طلابنا فى المدارس فى إطار مناهج دراسية تحتفى بالنتائج العلمية للحملة الفرنسية (١٧٩٨-١٨٠١) لكنها - كحال المناهج الدراسية فى فرنسا - لا تغمض العين عن النتائج الكارثية من الناحية العسكرية لتلك الحملة.
المثير للدهشة، هو أن خليفتهما فى مصر الجنرال «جاك مينو» ليس معروفًا بالقدر نفسه لا فى مصر ولا فى فرنسا، وإذا كانت المراجع الفرنسية تذكر هذا الجنرال بشىء من النقد فيما يخص كفاءته العسكرية، وشيء من الاستخفاف فيما يخص مواهبه الإدارية، فإن المراجع المصرية تركز على تحوله إلى الإسلام تحت اسم «عبدالله جاك مينو» من ناحية، وزواجه من إحدى سيدات رشيد التى كان حاكمًا عليها من ناحية أخرى، والواقع أن المراجع والمؤرخين قد بخسوا هذا الجنرال الكبير حقه، ولننظر ذلك ببعض من التفاصيل.
كان الجنرال مينو فى الثامنة والأربعين من عمره، وكان منافسه فى جيش الحملة على مصر الجنرال كليبر، الذى سيصبح حاكمًا على الإسكندرية فى الخامسة والأربعين، وهذا يعنى أن الجنرالين المخضرمين كانا معًا تحت إمرة بونابرت، الذى لم يكن قد تجاوز بعد عند وصوله مصر التاسعة والعشرين عامًا.
ورغم أن السن لا يصنع عبقرية عسكرية، فإن العامل النفسى لدى حاكمى رشيد والإسكندرية جعلهما ينظران إلى واقع الحملة العسكرية على مصر بشكل مختلف.
كان «مينو» ينظر لمستقبل مصر على أنه جزء من تاريخ مرتبط إلى الأبد بالتاج الفرنسى، ومن هنا كان تحوله إلى الإسلام، وكان زواجه من إحدى بنات العائلات الكبرى فى رشيد، وكان اهتمامه بأوضاع المصريين وبحثه الدائم عن حلول لمشاكلهم رغم أنه تولى قيادة جيش الحملة فى ظروف عسكرية وسياسية شديدة التعقيد بعد عودة بونابرت المفاجئة إلى فرنسا أغسطس ١٧٩٩ والاغتيال المفاجئ أيضًا لخليفته فى مصر الجنرال كليبر فى ١٤ يونيو ١٨٠٠ وتكالب أعداء فرنسا على جيش الحملة لإخراجه من مصر، أما كليبر فكان يرى منذ الساعات الأولى التى قاد فيها فرقته لاحتلال الإسكندرية فجر ١ يوليو ١٧٩٨ - والتى أصيب فيها بطلقة فى جبهته كادت تودى بحياته - أن الحملة على مصر غير مجدية سياسيًا ومحكوم عليها بالفشل عسكريًا، وأنه لا بد للعودة سريعًا إلى فرنسا.
وبينما أسرع بونابرت لاحتلال القاهرة ترك كليبر الجريح حاكمًا على الإسكندرية، وترك مينو الحالم حاكمًا على رشيد دون أن يدرى أن هناك مفاجآتان ستغيران تاريخ الحملة على مصر سياسيًا وعسكريًا وعلميًا وستترك آثارها باقية حتى اليوم فى العلاقات المصرية الفرنسية.
وأعنى بذلك تدمير الأسطول الفرنسى بكامله من قبل الإنجليز بقيادة نيلسون فى أبى قير، ليصبح بونابرت وجنرالاته وجنوده أسرى غزوتهم العسكرية لمصر، ومضطرين اضطرارًا للبقاء فيها والتعامل معها، وبالتالى إدخال العلوم الحديثة فيها حتى يمكن الاستفادة من مواردها الضرورية لحياة الجيش والجنود فى مصر.
وكان الحدث الثانى هو عثور الكولونيل بوشار فى رشيد على الحجر الذى يحمل اسمها فى ١٩ يوليو ١٧٩٩ أثناء قيامه بتحصين الدفاعات البحرية بقلعة قايتباى بالمدينة، وبرز هنا على الفور الدور العظيم للجنرال مينو الذى توسم بحاسته أن هذا الحجر يحمل بين طلاسم حروفه لغاته الثلاثة، ويشعر حاكم رشيد الذى كان قد احتفل بإسلامه وزواجه أن هذا الاكتشاف فى المدينة التى يحكمها هو هدية السماء له، وتقول إحدى الروايات أنه قضى الليل يتأمل الحجر فى غرفة نومه وأنه قبل أن يرسله إلى بونابرت وعلماء المجمع العلمى فى القاهرة على ظهر سفينة وبحراسة كتيبة مسلحة إلى القاهرة، أمر بأن يتم طبع نسخة ورقية لنصوص الحجر باستخدام الأحبار المتاحة، وكانت هذه الخطوة من الجنرال هى أول إشارات المجد الذى سيسجله التاريخ لهذا الحجر، وأن النسختين المطبوعتين من قبل علماء المجمع العلمى المصرى بأمر من بونابرت سيدخلان التاريخ أيضًا لأن واحدة منهما ستصل باريس فى حقيبة الجنرال ديجوا فى عام ١٨٠٠ ليسلمها إلى المجمع العلمى الفرنسى لتكون بذلك أول نسخة من نصوص حجر رشيد تصل إلى أوروبا، والتى سوف يستخدمها شامبليون بعد ٢١ عامًا فى فك رموز اللغة الهيروغليفية، كان إذن الجنرال مينو ذا رؤية مستقبلية وقد حاول بقدر الإمكان رغم الضغوط العسكرية الخارجية عليه وتآمر فريق من جنرالات الداخل فى مصر عليه أن يحافظ على قوام الجيش الفرنسى، وأن يصمد بقدر المستطاع أمام الزحف الإنجليزى على الإسكندرية دون أن يدرى أن الجنرال بيليار كان وقع فى القاهرة وثيقة استسلام جيش الحملة ورحيله عن مصر.
كان الشغل الشاغل لمينو فى الإسكندرية هو الاستمرار فى المقاومة حتى يرسل له بونابرت التعزيزات العسكرية مع أسطول جديد بقيادة الأميرال سيلفستر دى فيلنوف، حسب ما أظهرته المراسلات العسكرية لبونابرت فى القاهرة والتى ترجمتها للعربية (فى إصدارات المجمع العلمى المصرى ٢٠١٥)، ورغم أن «فيلنوف» لم يصل أبدًا بأسطوله إلى الإسكندرية واكتفى بالوقوف عند سواحل تونس، فإن الجنرال مينو فى الإسكندرية كان يفكر كيف ينقذ حجر رشيد من الوقوع فى يد الإنجليز -والذين يطالبون به بإلحاح- إذا ما استسلم لهم؟، وكان تارة يقول لهم إنه اشتراه من ماله الخاص من أحد التجار فى رشيد، وبالتالى فهو ملكية خاصة وليس ملكية عسكرية، وتارة يقول لهم إن الحجر الأصلى تم ترحيله إلى فرنسا وأن الموجودة فى مصر هى نسخة مزيفة، وأمام إصرار الإنجليز العسكرى استسلم مينو فى الإسكندرية، وأمام عنادهم العلمى اضطر إلى تسليم الحجر لهم، وكأن استلام جيش الشرق العظيم يعادله تسليم حجر رشيد.
هل حان الوقت كى تعيد فرنسا ومصر الاعتبار لهذا الجنرال الحالم بزواج الشرق بالغرب؟، والذى انتهت حياته عام ١٨١٠ كحاكم باسم الإمبراطور نابليون على مدينة الأحلام والحب وزواج الشرق بالغرب وهى مدينة فينسيا. فهل وراء هذا رسالة أخيرة يرسلها القدر لنا - مصريون وفرنسيون - عن حياة الجنرال عبدالله جاك مينو؟.