عندما يغيب عالم جليل بحجم الدكتور سعد الدين الهلالى، عن قائمة المصرح لهم بالفتوى فى وسائل الإعلام، يصبح من حقنا طرح تساؤلات مشروعة، ليس بشأن الغاية النبيلة من عمل القائمة، وإنما حول ما إذا كانت هذه الخطوة ستلعب دورًا حقيقيًا فى عملية إشاعة خطاب تنويرى جديد، يبتعد عن الأفكار التقليدية ويقدم نقدا علميًا لها؟!
صحيح أن المؤسسة الدينية الإسلامية متمثلة فى الأزهر الشريف ودار الإفتاء، هى من قامت بإعداد تلك القائمة لتضمن فى نهاية الأمر شيوع خطاب وسطى معتدل، لكن لا ينبغى نسيان انخراط عدد لا بأس به من طلاب الأزهر وأساتذته فى صفوف جماعة الإخوان الإرهابية وغيرها من التنظيمات التكفيرية.
المشكلة هنا لا تكمن بالطبع فى وجود خطاب وسطى معتدل لدينا، لكنها تكمن فى أحادية هذا الخطاب، بمعنى أنه منغلق على مجموعة آراء فقهية تستند لما يسميه بإجماع علماء الأمة ولا ينفتح على غيرها من الآراء والفتاوى، بل ويحجب عن جمهوره المتلقى نعمة التعددية الفقهية فى المذاهب المختلفة.
ومن ثم يعانى هذا الخطاب، وإن كان وسطيا من الجمود لأنه يقف عند حدود لا يتجاوزها، كما أن أصحابه تحولوا مع الوقت إلى ملاك لحق المعرفة الدينية، ومن ثم ملاك للحقيقة المطلقة، وهذا ما جعلهم ينصبون أنفسهم أوصياء على دين الناس - بحسب تعبير دكتور سعد الدين الهلالي.
ولأن هذا الخطاب الوسطى المعتدل أحادى الرؤية لم يستطع أربابه إبداع مذهب فقهى جديد وقيدوا أنفسهم بما أبدعه الأقدمون، وهذا ما يفسر إخفاق هذا الخطاب فى حماية المجتمع من فتاوى تكفير المسيحيين وتحريم تهنئتهم فى الأعياد، وبث أفكار الكراهية.
لا ينبغى تجاهل أن بعض من يدعون الانتماء للخطاب الوسطى المعتدل تقاسموا مع السلفى المتطرف ياسر برهامى فتاوى وآراء كادت تشعل فتيل الفتنة الطائفية، وكانت سببًا فى شيوع مشاعر طائفية مقيتة عايشناها فى حوادث حرق منازل المسيحيين فى بعض قرى الصعيد بسبب أعمال ترميم كنيسة أو إقامة صلاة فى منزل.
أخشى أن يكون خلو القائمة من أسماء مثل: الدكتورة آمنة نصير والدكتور سعد الدين الهلالى والدكتور عبدالله النجار.. تكريثًا للخطاب العقيم ذاته.
وقد لعب الدكتور سعد الدين الهلالى أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، دورًا خطيرًا فى مسار تجديد الخطاب الديني، وأظنه قام منفردًا بالخطوة الأولى فى هذا المسار المعقد، وهى تحرير عقل المسلم من سطوة أوصياء الدين؛ حيث قام من خلال أحاديثه التليفزيونية ومقالاته، بعمل ما يشبه الصدمة لدينا جميعا بعرضه لجميع الآراء الفقهية التى قيلت فى مسألة واحدة، دون أن يطلب من المسلم التقيد بأحدها، بل على العكس من ذلك دأب على مطالبة جمهوره بإعمال عقله فى تلك الآراء والأخذ بأنسبها لظروفه.
لقد خلق الدكتور سعد الدين الهلالى بمنهجه العلمى ومخاطبته لعقل المسلم لا عاطفته ما يمكن تسميته بديمقراطية التفقه فى الدين، بمعنى أنه يحث المسلم على المعرفة الدينية الحقة بالاطلاع على كل الآراء الفقهية التى وردت فى مسألة بعينها، ثم ينتخب من بينها ما يعتقد أنه يحقق مصلحته، وأهم ما فى هذه العملية أنها تمهد الطريق أمام علماء حقيقيين ليبدعوا آراء فقهية جديدة ومذاهب حديثة غير المذاهب التى ورثناها على قاعدة (هم رجال ونحن أيضًا رجال). لا أظن أن عمل قائمة حصرية للمفتين يحل مشكلة، فمواقع وصفحات شيوخ السلفية قادرة على إفساد ما ستصلحه القائمة، لذلك فإن ما نحتاجه فى الإعلام هو الانتصار لمنهج الدكتور سعد الدين الهلالى الذى يدعو لإعمال العقل، ومقاومة أوصياء الدين.