وصلنا في المقال السابق عند حادثة مقتل التاجر المصري السكندري على يد المالطي، الذي استأجر منه حمارا ثم رفض أن يعطه أجره، هذا الحادث الذي أدى إلى انفلات أمني نتج عنه قتل العشرات من الأجانب ثأرًا للمصري، فغادر المدينة على الفور ما يقرب من عشرة آلاف أجنبي في يوم واحد، وأثناء التحقيقات التي أجرتها الحكومة المصرية، تبين أن الرجل المالطي من رعايا بريطانيا، وأن شقيقه هو خادم القنصل البريطاني، إذن فالأمر كان مقصودًا ومدبرًا، فهذا المالطي هو من أشعل نيران الفتنة حين قتل المصري، وقد فطن عرابي للمؤامرة التي تدبرها بريطانيا لمصر، خاصة أن أسطولها لم يزل في البحر أمام السواحل المصرية، فطلب من لواء الإسكندرية تعزيز الدفاعات ونصب المدافع قبالة الأسطول الإنجليزي، ولا شك أن هذه الحوادث التي وقعت في يونيو، ١٨٨٢ جعلت الأنظار تتجه نحو ضرورة تأليف وزارة جديدة، وبالفعل تم اختيار إسماعيل راغب، ليشكل وزارة جديدة، والتي احتفظ فيها عرابي بمنصبه كوزير للحربية، وظن الجميع أن البلاد تسير نحو الاستقرار، ولكن رئيس وزراء فرنسا دعا فجأة إلى عقد مؤتمر عاجل للنظر في المسألة المصرية، وكيفية ضمان حماية الأقليات والأجانب بها، وعلى الفور لبت بريطانيا وألمانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا النداء، أما تركيا فقد رفضت هذا المؤتمر، وأعلنت أن الأحوال في مصر لا تستدعى كل هذا القلق، ولكن الدول الأوروبية أصرت على عقده، وأغرب ما في الأمر، أن المؤتمر قد عقد في الأستانة ولم تشترك فيه تركيا، فكان من المضحكات المبكيات، وانتهى المؤتمر إلى توصيات للحكومة العثمانية بإرسال قوة عسكرية لحماية الأجانب في مصر وللإطاحة بعرابى ورجاله من الجيش المصري، على أن تعيد هذه القوة الهيبة والسلطة لتوفيق، وشعر عرابي بأن ثورته سيكتب عليها القضاء وأن ما ناله الضابط المصري من حقوق ستسلب منه مرة أخرى وتعود إلى الشركسي، ورفضت تركيا إرسال أى قوات لمصر، في الوقت الذي بعث فيه قائد الأسطول الإنجليزي إنذارًا للحكومة المصرية بتسليم المدافع المنصوبة في الحصون وعلى ساحل الميناء، ووقف عمليات الحشد العسكرى في الإسكندرية، وإلا فإن الأسطول الإنجليزي سيقوم بضرب المدينة في اليوم التالي، ولما رفض عرابي هذا الإنذار بادرت البارجات البريطانية بضرب الإسكندرية في صباح يوم الثلاثاء ١١يوليو ١٨٨٢، حيث أطلق الإنجليز قذائفهم باتجاه الإسكندرية فأحدثت خرابًا هائلًا واستشهد المئات وهدمت المباني الشاهقة وحصون الفنار ورأس التين، وخلال ساعات قليلة باتت الإسكندرية مدينة حزينة مظلمة تغطيها سحابة من دخان كثيف، وأيقنت فرقة الجيش الحامية للإسكندرية أن الإنجليز سيحتلون المدينة بعد أن دكوها، فتراجعت الفرقة لإعادة ترتيب صفوفها وانتظار قدوم عرابي ببقية الجيش، وأثناء ذلك أمر سليمان سامي، قائد اللواء السادس الحامي للإسكندرية، بإضرام النار في المدينة لتعطيل نزول الإنجليز بها، والواقع يادكتور يوسف زيدان يا من تتهم عرابي بحرق الإسكندرية، أن الرجل لا علاقة له بهذه الحادثة من قريب أو بعيد، وقد أقر بهذا عبدالرحمن الرافعي، وهو من كارهىي عرابي، لكنه وعند ذكره لهذه الواقعة ذهب إلى أن عرابي لم يكن له أي دخل فيها وعندما وقع الحريق لم يستطع أن يمنعه، فالحريق بدأ قبل أن يصل عرابي إلى الإسكندرية، وعندما وصل ورأى الحال اتخذ قراره بالانسحاب إلى كفر الدوار وبناء الاستحكامات هناك، وبعدما دك الأسطول الإنجليزي الإسكندرية انسحب الأسطول الفرنسي تاركًا الملعب للإنجليز وحدهم، ليعلن رئيس وزراء فرنسا «دكارك» مباركته احتلال إنجلترا لمصر، لأن ذلك سيعزز وجود فرنسا في تونس والجزائر، أما توفيق فقد أرسل في ١٧ يوليو برقيه إلى عرابي يأمره فيها بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويدافع فيها عن الإنجليز وحسن مقاصدهم، ويأمره في النهاية بمقابلته فورًا، لكن عرابى أرسل إليه برقية يشرح فيها أسباب مقاومته للعدوان الإنجليزى ومحاربته دولة تريد احتلال مصر، وفرض سياستها عليها بالقوة، وأرسل عرابي إلى جميع المديريات برقيات يؤكد فيها أن خديو مصر يوالي الإنجليز، وأنه – أي عرابي – سيدافع حتى آخر قطرة في دمه عن مصر وأرضها، ويروي اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة» كيف أن توفيق طالب الإنجليز بإنزال الجنود برًا وحماية عرشه المهدد بسبب عرابي وصحبه، وأعلن توفيق إقالة عرابي، لكن الجيش تمسك بقيادته فالوقت عصيب ولا يصح تغيير وزير الحربية في ظروف كهذه، والسؤال الآن لمن يقول بأن عرابي سبب الاحتلال الإنجليزي، أكان عليه أن يستسلم ويسلم مصر للإنجليز دون أن يدافع عنها؟ أم كان عليه أن يتركها لقمة سائغة لمحتل جاء بمباركة الخديو الذي رأى في الجيش الوطني تهديدًا له؟ ولماذا نطالب عرابي بالتنازل والاستقالة ولا نطالب توفيق بالوقوف إلى جانب الحركة الوطنية التي أثمرت عن جيش من المصريين وعن مجلس للنواب وعن حياة شبه ديمقراطية ونحن لم نزل في نهاية القرن التاسع عشر؟ أما بالنسبة لهزيمة عرابي في القصاصين والتل الكبير، فلهما ظروفهما والتي بدأت بخيانة إدارة شركة قناة السويس التي تعهدت لعرابي بعدم دخول قوات الإنجليز عن طريقها، وانتهت بجيش يحارب على الأرض دون غطاء سياسي ودون دعم لوجستي وبعتاد قديم أمام آلة حربية حديثة أتت بطلب من توفيق، الذي استقبل قادة الحملة في قصر عابدين، وأقام لهم ولائم العشاء وشكرهم لنجاحهم في تخليصه من عرابي وصحبه الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم ونفيهم خارج البلاد، والسؤال الآن: هل كان عرابي وطنيا يحب هذا الوطن وحمل لواء أول ثورة وطنية ضد التمييز وضد التدخل الغربي السافر الذي بدأ بمعاهدة ١٨٤٨ وازداد حين وافق إسماعيل على وجود مراقبين ماليين من فرنسا وإنجلترا داخل الحكومة المصرية؟ أم أنه كان خائنا وسببا في الاحتلال كما قيل؟ هل كانت إنجلترا ستترك مصر لو أن عرابي قد آثر السلامة وقبل الإقالة؟ ولماذا لم تتركها بعدما ألقت القبض عليه وقضت على حركة العصيان التي كان يقودها حسب قولهم؟
آراء حرة
أحمد عرابي المفترى عليه "٤"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق