(البرد جهنمي).. استوقفتنى هذه العبارة حينما كنت أطالع بشغف رواية حكاية مملة، من مذكرات رجل عجوز، للأديب الروسى الأشهر أنطوان تشيخوف.. جاءت هذه العبارة مندسة عرَضًا بين جنبات الرواية على لسان أحد أبطالها.. فبعد أن دَلَف إلى المنزل حالًّا ضيفًا على مَنْ فيه.. وأثناء ما كان يخلع القفازات والمعطف قال لهم: (مرحبًا، أتشربون الشاى؟ هذا مناسب تمامًا؛ فالبرد جهنمى).. جعلتُ أتساءل فى نفسي: كيف يكون البرد جهنميًّا؟!.. كيف يمكن للشيء ونقيضه أن يجتمعا على هذا النحو؟
رواية حكاية مملة كتبت منذ حوالى قرن ونصف من الزمان، وجاءت على لسان أستاذ جامعى بكلية الطب فى إحدى جامعات روسيا.. نيقولاى كان أستاذًا بارزًا ذائع الصيت، ليس فى روسيا فقط، بل فى أوروبا كذلك، هذا الأستاذ الذى بلغ من العمر منتهاه وأصبح على مشارف الموت، فكان يعلم فى قرارة نفسه أنه لن يعيش أكثر من نصف عام؛ حيث أصيب بالمرض، فأصبح هزيل الجسم، شاحب الوجه، ورغم أنه طبيب لم يكن قادرًا على وصف الدواء لنفسه.. كان ينام فى منتصف الليل، ثم ما يلبث أن يستيقظ فى الثانية صباحًا، بسبب الأرق الذى كان يلازمه، فيظل يتجول فى الغرفة ويتفحص اللوحات والصور رغم أنه يعرفها جيدًا، وكان حينما يمل من ذلك يجلس إلى مكتبه دون حراك، وهكذا يستمر طوال الليل فى عمل أشياء رتيبة مملة حتى يأتى الصباح.. (ألّا تنام ليلًا يعنى أن تدرك كل لحظة أنك لست طبيعيًّا، وعليك أن تنتظر بفارغ الصبر مجيء الصباح؛ حيث يكون من حقك ألّا تنام!!)..
ثم يأتى الصباح؛ فيذهب نيقولاى إلى الجامعة لإلقاء محاضراته، ولكنه لم يصبح كما كان فى الماضى، فالمحاضرة كانت عنده فى الماضى استسلامًا للشغف، وإدراكًا أن الإلهام ليس مقصورا فقط على الشعراء، أما الآن، فلم يعد يشعر فى المحاضرات إلا بالعذاب، فما أن تمر نصف ساعة حتى يشعر بالضعف؛ فيكمل المحاضرة جالسًا، وهو الذى اعتاد أن يلقيها واقفًا.. ورغم أن ضميره وعقله كانا يقولان له إن أفضل ما يمكن أن يفعله هو أن يُلقى على طلابه محاضرة الوداع، ويترك مكانه لمن هو أقوى، إلا أنه لم تكن لديه الشجاعة فى أن يتصرف كما يقولان.
يجلس نيقولاى مع أسرته؛ فيزداد شعورًا بالغربة، ينظر إلى زوجته ويتساءل باستنكار: هل هذه هى الزوجة التى أحببتُها يومًا ما؟ من أحببتُها كانت رشيقة بسيطة ذكية، أما ما أراه الآن، زوجة مترهلة تُغيِّر أصناف الطعام تبعًا للمكانة الاجتماعية التى أحصل عليها، فتحرمنى من الأطباق البسيطة التى أحبها.. إنها تمثل دور امرأة رفيعة المستوى أمام خطيب ابنتها، ولا تلقى بالًا لدخل زوجها الذى لا يكاد يكفى سداد راتب الخادم، الذى يهمها أن تعيش بطريقة تُناسب مكانته الاجتماعية.. كان نيقولاى يتأمل هذا الأمر فيشعر بالحزن.
ويسأل نيقولاى نفسه بعد إعادة نظره فى حياته الماضية: (هل أصبح العالم سيئًا وأنا أفضل، أم أننى كنت سابقًا أعمى وغير مبالٍ؟).. نيقولاي، لم يتغير الوضع، فأنت فى الماضى كنت غير مبالٍ لا ترى، وأصبحت الآن عديم المبالاة على نحو أكثر حينما أصبحت تنتظر الموت، المبالاة يا نيقولاى هى شلل الروح، هى الموت المبكر، هى غياب ضوء الفجر!.. لماذا نحتاج لأن نكون من الموت قاب قوسين أو أدنى حتى نعيد النظر فى حياتنا؟ لماذا نتأخر كثيرًا فى رؤية الأمور على حقيقتها؟
إن الحكايات تكتسب الملل عندما تتكرر أحداثها، ونحن نقف متفرجين؛ فتستمر فى تكرارها ساخرة منا، وهذه الرواية التى تروى هواجس عالم مشهور، يشعر بأن أجله قد اقترب، إنما تروى الوجه الحقيقى للحياة؛ فالذى يظهر للناس هو الحياة المترفة، إنما البؤس الداخلى لا يتجلى إلا لأصحابه.. الآن بعد أن عشتُ أحداث تلك الحكاية، وتفاعلتُ معها، وبعد أن أنهيتُ كتابة هذا المقال، أصبحتُ أعلم كيف يمكن أن يجتمع الشيء ونقيضه؟ وكيف يكون البرد جهنميًّا؟!