الثلاثاء 28 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الصورة وتزييف الواقع «4»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى العصور الوسطى المسيحية، حذر القديس «أوغسطين» st. Augustine (٣٥٤ – ٤٣٠) من تلك الرغبة البصرية التى تحول عقولنا بعيدًا عن الاهتمامات الروحية، إنها الرغبة التى ترتبط بحب الاستطلاع أو الفضول المعرفى التى تحدث عنها خلال تصنيفه لما سماه «شهوة الأعين»؛ ففى مقابل المتعة البصرية المرتبطة بالجمال؛ فإن الفضول- فى رأى «أوغسطين»- يتحاشى الجميل، ويذهب وراء نقيضه تمامًا، من أجل لذة الاكتشاف والمعرفة؛ فيجتذب الفضول المشاهد نحو المناظر غير المألوفة وغير الجميلة أيضًا. إنه يكون مصحوبًا برغبة فى المعرفة لذاتها، وهى رغبة قد تؤدى بصاحبها إلى الاهتمام بالتحولات المرتبطة بالسحر والعلم. وقد تحدث «أوغسطين» عن نظرية «الإشراق» أو «الشعاع»، ورأى أن كل حكم صادق يفترض إشراقة طبيعية من الله على الذهن، فالعقل الذى خُلق من العدم لا يستطيع أن ينتج الضروري؛ أى الوجود الحق- تمامًا كما أن الأم لا تستطيع أن تهب الجسد الفانى إلى وليدها- إن الله هو الذى يُخصب فكرنا «بكلمته»، إنه ليس فحسب السيد الداخلى أو المسيطر الباطنى بوصفه صوتًا يهمس فى أذن العقل، وإنما هو النور الذى يجعله يرى أو هو «النور الحقيقى الذى يُنير كل إنسان آت إلى العالم». وإذا انتقلنا إلى عصر النهضة الأوروبية، وجدنا محاولة لمعرفة الله أو المجد الإلهى من خلال آثاره وصوره، ويتضح هذا مما كتبه السير «والتر رالي» Raleigh Sir Walter (١٥٥٢ – ١٦١٨) عن «تاريخ العالم»، يقول: «إننا نرى ظل طلعة الله البهية فى أنوار السماوات المجيدة، وفى كفالته الرحيمة لكل من يحيا فى كنف خيره العظيم، وأيضًا فى إيجاده للعالم فى مجموعه وخلقه إياه من العدم عن طريق القدرة المطلقة لكلمته وسلطانه وجبروته». ويؤدى بنا هذا النص إلى ما قام به مفكرو عصر النهضة ومن قبلهم فلاسفة العصور الوسطى، من استخدام لمجاز صورة العالم لبيان فكرة فلسفية مفادها بأن العالم ليس سوى بناء تسلسلى بالغ الإتقان، أى أنه مؤلف من سلسلة مترابطة الحلقات أو المراتب، وكل مرتبة فيه تعكس جوهر أو نظام المرتبة الأخرى؛ فيصبح كل شيء منعكسًا فى كل شيء، والسلسلة هنا ما هى إلا صورة تعبر عن حال الكمال والإحكام الذى يميز خلق الله. 
وارتبطت دراسة «الصورة» فى تراث المذاهب الفلسفية الحديثة بعدة تيارات رئيسية، تتمثل فى: المذهب المادي، والمذهب الروحي، والمذهب الفينومينولوجى، والمذهب الوجودي. وقد عول المذهب المادى فى تفسير علاقة الصورة بالإدراك على فكرة «التداعي» التى تؤول إلى تصورات ترابطية تتحرك فى نطاق سيكوفيزيائى يحلل العمليات السيكولوجية برده إلى ما يحدث فى الجهاز العصبى من متغيرات. ويمثل «هيوم» Hume (١٧١١ – ١٧٧٦) هذا الاتجاه، وذلك لأنه لم يكتف باعتبار الصور والأفكار مجرد نسخ للانطباعات الأصلية على الحس، وإنما عَدها نسخًا تبدو فى وضع انفصال؛ كما رأى أن الخيال بإمكانه أن يفصل الأفكار البسيطة بعضها عن بعض ثم يعيد ربطها من جديد، هذا الترابط ينشأ عن علاقات التشابه والتجاور الزمانى والمكانى والسببية. وقد عارض «هكسلى» Huxley (١٨٩٤ – ١٩٦٣) نظرية «هيوم» فى الصور، وذهب فى نقده إلى أنه من المحتمل عندما تُستنسخ الانطباعات أو الصور المعقدة بوصفها ذكريات، ألا تعطى كل تفاصيل الموضوعات الأصلية بدقة تامة. 
وقد سبق «هيوم» فى تفسيره الخاص بتداعى المعانى «اسبينوزا» Spinoza (١٦٣٢ – ١٦٧٧)، فيما قدم من تفسير مادى للذاكرة يقوم على أن الجسم البشرى إذا ما تأثر بجسمين أو أكثر فى وقت واحد؛ فإن ذهنه عندما يتخيل أيا منهما فيما بعد، يتذكر الآخر بدوره. أما «كانط» Kant (١٧٢٤ – ١٨٠٤)؛ فقد رأى- فى القسم الخاص بالاستنباط المتعالى- أن ملكة الخيال تستعين بالصورة والزمان، لكى تخلق رسومًا تخطيطية أو رموزًا، يمكن أن تندرج تحتها حدوس حسية، وبفضل فعل الخيال تحقق الأنا ذاتها، فتتصل بالكثرة وتوحدها وتعارضها وتضع ذاتها. وعالج «برجسون» Bergson (١٨٥٩ – ١٩٤١) فى كتابه «المادة والذاكرة» مفهوم الصورة والذاكرة وعلاقة الإدراك الحسى بالتخيل. وقد رأى- فى هذا الكتاب- أن تقريب المادة من الشعور لا يستلزم نقل المادة إلى داخل العقل وجعلها مجرد فكرة، على نحو ما ذهب «باركلى» Berkeley (١٦٨٥ – ١٧٥٣)، وإنما يكون بوضع المادة فى منتصف الطريق بين الامتداد الهندسى والفكرة الخالصة. فليست الأشياء أجسامًا جامدة تمامًا، كما أنها ليست روحًا بالمعنى الدقيق، وإنما هى بين الاثنين وجود وسط؛ وهذا الوجود الوسط يسميه «برجسون» صورًا. والصورة عنده هى «نوع من الوجود بين الشيء والتصور»، والأجسام- على هذا النحو- هى مجموعة من الصور تتركز وتتحدد فيما بينها فتبدو روحًا أو فكرًا، وتتشعب وتفترق فتبدو مادة أو جسمًا. 
والجسم الإنسانى صورة تؤثر فى الصور الأخرى، وهذا الجسم لا يصنع التصورات أو يُبعثها، وإنما هو مركز عمل وأداة لاستقبال التأثيرات الصادرة عن الصور الأخرى.