تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أصدر المناضل اليساري المعروف الدكتور رفعت السعيد طبعة رابعة من كتابه الهام “,”التأسلم السياسي“,” وهو كتاب صغير الحجم ولكنه كبير القيمة، ورفعت السعيد ليس بحاجة إلى تعريف، لأنه يقف في صدارة المناضلين الماركسيين منذ أن دخل ساحة النضال الوطني مبكرًا واعتقل وهو على مشارف الشباب، وتكرر اعتقاله من بعد مرات عديدة، ومعنى ذلك أنه دفع غاليًا مقابل نضاله الممتد للدفاع عن مصالح الطبقات الجماهيرية العريضة، وقد استمر رفعت السعيد في نضاله ناشطًا سياسيًا بارزًا إلى أن أصبح رئيسًا لحزب التجمع خلفًا للثائر الوطني النبيل خالد محيي الدين.
ورفعت السعيد ليس مجرد زعيم سياسي ولكنه أيضًا مؤرخ مقتدر، أغنى المكتبة العربية بتاريخه الموثق للحركة الشيوعية المصرية، بحيث أصبحت مؤلفاته في هذا المجال هي المراجع الرئيسية.
وقد قرأت كل مؤلفاته في هذا الموضوع الحيوي باعتبار أن الحركة الشيوعية المصرية كانت في صدارة الحركات السياسية التي ناضلت ضد الاستعمار، ودافعت بقوة عن مصالح الطبقة العاملة وحقوق الشعب بشكل عام.
وأذكر أن بعض النشطاء الماركسيين أبدوا اختلافهم مع بعض فصول كتبه على أساس أنه انحاز إلى الفصيل الشيوعي الذي كان ينتمي إليه، غير أنه كمؤرخ استخدم بذكاء الوثائق المختلفة لتأييد وجهات نظره.
على أي حال الكتاب الذي في أيدينا يتميز منهجيًا بأنه يتضمن قراءة نقدية للتاريخ الإسلامي، وهي مناقضة للتاريخ المثالي الذي تحاول فيه التيارات الإسلامية المختلفة تصويره وكأن الدولة الإسلامية في عصورها المختلفة كانت مثالاً للعدل مع أنها شهدت طغيانًا من قبل الحكام ومظالم حقيقية للجماهير.
ومن ناحية أخرى، استطاع رفعت السعيد بالرجوع إلى المصادر الإسلامية الموثقة كشف حقيقة الأحاديث النبوية الموضوعة والتي لا سند لها أو سندها مشكوك فيه، والتي استخدمت في سبيل إضفاء الشرعية على الفصائل السياسية المتناحرة منذ الخلافة الأموية وما تبعها كالخلافة العباسية.
وهذه الإشارات التاريخية الموثقة كشفت حقيقة أن استخدام الدين في الصراع السياسي مسألة قديمة في المجتمعات الإسلامية، ولذلك لم يكن غريبًا أن تلجأ جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها عام 1928 على خلط الدين بالسياسة، أو بتعبير رفعت السعيد في الفقرة التي أعطى لها عنوانًا بداية عن التسمية، حيث يقول “,”“,”في كل محاولات تسييس الدين أو تديين السياسة يبرز اتجاه لاتخاذ أسماء تستهوي قلوب العامة، وتمنح أصحاب هذه المحاولات مساحة من التستر بصحيح الدين لتضليل الناس ولاستبعاد مخالفيهم من ساحة الإيمان“,”.
ورفعت السعيد يتتبع بطريقة منهجية دقيقة محاولات المتأسلمين اللجوء إلى التأويل المنحرف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية لإضفاء الشرعية على سلوكهم السياسي وعلى لجوئهم إلى العنف والإرهاب، بما في ذلك استحلال قتل المسلمين وغيرهم، وهو في فقرة بعنوان “,”بطاقة شخصية مطولة“,” يقدم السيرة الواقعية للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن ينزع عنها المآلات التي أضفتها عليها جماعة الإخوان المسلمين.
وحسن البنا لم يكن فقيهًا بالمعنى الديني للكلمة، ولكنه كان بكل المعايير عبقريًا في التنظيم، لأنه استطاع أن يبني جماعة الإخوان المسلمين وينشر سعيها في كل أحياء المدن المصرية وفي كل القرى، واستطاع إقامة شبكة اتصالات بالغة الدقة كفلت له نقل أوامر مكتب الإرشاد إلى أعضاء الجماعة في كل مكان.
ولا شك في أن حسن البنا الذي أسس التنظيم السري للإخوان المسلمين الذي قام باغتيالات متعددة لشخصيات سياسية مرموقة وشخصيات قضائية، هو الذي بذر بذلك بذرة استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية للجماعة. ومع أنه تنصل من العنف بعد اغتيال النقراشي باشا إلا أن ذلك لم يمنع البذرة من أن تنمو عبر الزمن لتجد سيد قطب الذي انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في الخمسينيات ليصبح المنظر الأكبر للعنف في العالم الإسلامي، والذي يمكن القول إن الجماعات الإرهابية المتأسلمة “,”خرجت كلها من معطفه“,” إن صح التعبير.
ويقدم رفعت السعيد فيما بعد في فقرة “,”بطاقة شخصية الجماعة“,” سردًا تاريخيًا موثقًا للأدوار المختلفة التي مرت بها جماعة الإخوان المسلمين والتي شاء دهاء التاريخ إلى أن تتحول بعد ثورة 25 يناير ومن خلال عثرات وأخطاء بل وقضايا المرحلة الانتقالية استطاعت أن تحصل على الأكثرية في مجلس الشعب والشورى، بل واستطاعت أن تنجح رئيس حزب الحرية والعدالة، الدكتور محمد مرسي لكي يصبح رئيسًا للجمهورية.
وهكذا بدأ عصر الإخوان المسلمين في مصر وثبت بالقطع عديد من الأحكام التي أطلقها عليهم رفعت السعيد منذ سنوات طويلة، وها نحن نشهد جميعًا الفشل التاريخي لهذه الجماعة المتأسلمة التي أثبتت أنها تفتقر إلى رؤية سياسية متكاملة وأنها عاجزة عن إدارة الدولة.