شهدت العقود الأخيرة عديدًا من التطورات والتغيرات، منها تعاظم دور الدين فى السياسة؛ حيث لعبت «جماعة الإخوان» في السنوات الأخيرة دورًا أساسيًا في الحياة السياسية في مصر بعد خوضها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، بل وتمكنها من الحصول على الأكثرية في هذه الانتخابات بما سُمى إعلاميًا بـ «عام الجماعة»، وهي الثقة التي لم تستمر كثيرًا في «الجماعة»؛ حيث تلاها بشهورٍ قليلة المطالبة الشعبية بعزل الرئيس محمد مرسي في ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
وترجع جذور الجماعة التاريخية إلى القرن الماضي منذ تأسيسها في عام ١٩٢٨ على يد حسن البنا، لتتحول من حركة هلامية التنظيم وفردية القيادة إلى مؤسسة سياسية متماسكة نشطة تبنت الوسائل والآليات للدعوة والخدمات الاجتماعية، ومتطرفة لاتخاذها وسائل النظام السري المسلح، من خلال نظامها الخاص الذى قاده القيادى الإخواني عبدالرحمن السند، في حين تشكلت حركات الإسلام السياسي الأخرى مثل جماعة «التكفير والهجرة»، وجماعة «الجهاد» وتنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش» وجماعة «أنصار بيت المقدس» وغيرها من الجماعات التي خرجت من رحم «جماعة الإخوان».. وقد اعتبرت الجماعات الإرهابية منذ ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ مصر هدفًا مفضلًا ولوحة تنشين كبيرة لإعادة مصر والشعب المصرى إلى حظيرة «جماعة الإخوان» الإرهابية، التي كانت تجهز لتحويل مصر إلى مركز ضخم للجماعات المتطرفة في العالم، لتكون منطلقًا لبث الذعر والفوضى في المنطقة العربية، بهدف الوصول إلى منابع البترول في دول الخليج العربي التي كانت توجد بها خلايا ضخمة ونائمة للجماعة بها في انتظار إشارة البدء.
وقد أظهرت قوى الإسلام السياسي قدرة كبيرة في إيصال رسالتها إلى قاعدة جماهيرية عريضة، في إطار تطوير خططها واستراتيجياتها وطرح أفكارها على أنها حل بسيط للأزمات والإشكاليات الموجودة على الساحة السياسية؛ حيث تشكلت أعمالها في إطار العنف ونبذ الآخر.. ويرجع ذلك إلى الإشكالية التاريخية التي انطوت عليها تأسيس العلاقة بين الدين والدولة في أوروبا وظاهرة الإسلام السياسي في المنطقة العربية، فضلًا عن الإسهامات الأوروبية الفاعلة والمهمة التي ارتبطت بالثورة الصناعية منذ أواسط القرن الماضي، وترتب عليها ازدهار أوروبا على نحو جعل منها نماذج متقدمة تتعاطى مع المجتمعات الأخرى بمعايير متعددة ومهمة، الأمر الذي جعل جميع الدول الغربية بمثابة كتلة صماء تدين بالمسيحية، على الجانب الآخر نجد تراجعًا على مستوى العالم العربي والإسلامي لم تستنهضه مقومات النهضة بقدر ما تحكمت فيه مذاهب ورؤى ترجع إلى الفكر التعبوي والديني لشخصيات، مثل: ابن تيمية وسيد قطب وحسن البنا، لكنها رأت أن الدين بأحكامه لا يخضع إلى العقلنة، من هنا صارت الأحكام بمثابة أدوات ردع أكثر من كونها وسائل ومعالم للنهوض الفكري والذهني.
على الجانب الآخر، نجد أن الإشكالية التاريخية للتيارات السلفية بأطيافها كل، التى انتهجت وجوب طاعة الحاكم وولي الأمر، رأت من خلال استشرافها لمستقبل السلفية أنها كادت تختفي من المشهد السياسي نظرًا لرفض الشارع المصرى لتيارات الإسلام السياسي بعد أحداث ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣، فحذرت ونصحت وأوجدت البدائل للحيلولة دون حدوث ذلك، حتى إنها كانت بمثابة الإعلان عن ميلاد دولة بلا دين ودين بلا دولة؛ حيث تم الفصل بعلمانية عمت أرجاء القارة الأوروبية ولا تزال حتى اليوم، وهي تحاصر أشكال التسلط كلها باسم الدين، وبذلك نجد أن الاستشراق بالغرب أدى إلى رؤية الثقافة الإسلامية كشيء ثابت في الزمان والمكان واعتبارها غير قادرة على تحديد ذاتها، وهذا ما أعطى أوروبا إيمانًا بتفوقها الذاتي فكريًا وثقافيًا، ومن ثم زعمها أنها تقوم بتثقيف وتمدين الشعوب الشرقية في إطار الوصف المضلل للثقافة العربية الإسلامية والنظرة السلبية، وقد تم نشر هذه المعرفة السلبية بواسطة صور نمطية عن الذهنية العربية والمجتمع الإسلامي والروح الشرقية، في إطار الهيمنة على وسائل الإعلام والتأثير في نشر رسالتها عن المجتمع الإسلامي.
وبذلك نجد الإشكالية التاريخية بدءًا من القرن الثامن عشر الميلادي، وهو القرن الذي تكونت فيه الإمبراطوريات الأوروبية، ثم بدأت تتحد خلاله عبر العالم عن طريق الاستعمار، وذلك بأساليب مختلفة، وتكوين صورة سلبية عن بلاد الشرق.. من هنا بدأت تتشكل الرؤى الاستشراقية حول الصورة السلبية عن الإسلام في الغرب من السبعينيات بعد حرب أكتوبر وقطع الإمدادات البترولية عن الغرب، وبما أن معظم العالم العربي مسلم تكونت صورة سلبية عن الإسلام في الإعلام الأمريكى وانتقلت الصورة نفسها إلى الدول الأوروبية، على الجانب الآخر تشكلت الصورة السلبية عن الإسلام بعد الثورة الإيرانية؛ حيث كانت تصرفات الخوميني تؤسس للصدام مع الغرب، رغم أن الغرب هو الذي قدم له المأوى في فرنسا التي قاد منها الثورة الإيرانية، وهكذا ارتبط مفهوم الإسلام بالأصولية وبعدم القدرة على فهم الآخر، من هنا تجسدت كراهية الإسلام باعتباره قوة عالمية مؤثرة.
ونجد أن هناك من استفاد من هذه الصورة السلبية عن الإسلام، وهي إسرائيل التي كان يقدمها الغرب في الإعلام على أنها دولة متوازنة ومعتدلة، وبذلك فإن من مصلحة الغرب أن يظهر الإسلام في هذه الصورة السلبية طبقًا لتوجهات غير مباشرة تعمل على اتحاد المواقف والرؤى تجاه القضايا الخارجية للعالم الإسلامي.. والمعلوم أن الإسلام السياسي خلال مرحلة ما قبل ثورة الثلاثين من يونيو قد أفرز بشكل أو بآخر نمطًا فكريًا متعارضًا مع السياق التاريخي والسياسي لمجمل ما ذهبت إليه تلك الثورة، باعتبار أن الإسلام السياسي في المجمل لم يتفهم أو يدرك الحقائق السياسية والاقتصادية، فضلًا عن عدم تفاعله من الناحية الاستراتيجية والأبعاد الدولية التي تعد أحد أهم تفاعل أي ثورة في إطار التغيير المنشود؛ من هنا فإن الإسلام السياسي لا يعد فحسب عائقًا يحول دون اندماج القوى الثورية التي تطالب بحتمية وضعية الثورة في إطارها الشرعي، مما ساهم في تأجيج المشاعر إزاء حتمية التصدي للإسلام السياسي على نحو ما ذهبت إليه معايير الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق محمد مرسي.
إننا في حاجة ماسة لمناقشة العلاقة بين الدين والدولة، والتي تعرضت لعديد من السجالات بين أطياف الإسلام السياسي وأجنحة الدولة نفسها فيما يتصل بالدعوة لتجديد الخطاب الديني الذي لم يعد يصلح لوقتنا الراهن وقضايا شعوبنا الحالية.