تواصل «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته
وتستعيد ملك حفنى ناصف حيويتها مدافعة عن المرأة ورافضة لظلمها أو لتفضيل الرجل عليها ولكن كلماتها تأتى أقل حدة وأكثر تهذبًا فتقول: «المرأة المصرية مسلوبة الحق، مظلومة فى كل أدوار حياتها. فالأهل يتشاءمون منها وهى جنين، فإذا جاءت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة وترى «الداية» وهى تحملها منكمشة لا تبدى ولا تعيد كأنما لها بعض من الذنب فى ولادتها أنثي. ونرى أقارب الأم وصديقاتها يكثرون من الهدايا إذا كان المولود ذكرا ويقلون منها إذا كانت أنثي ثم تمضى باحثة البادية لتتابع عملية التمييز فتقول: «كذلك حالهما فى التربية والتعليم، فإن نصيب البنت قليل عندنا حتى أن من تجاوزت سن الطفولة وتبقى فى المدرسة تعد حالة شاذة. ولست أعجب من جهل الأمهات أكثر مما أعجب مما يفعله قوم متنورون وتربوا تربية عالية ثم ينادون بقصر تعليم البنت على القراءة والكتابة والطبخ والغسل، كأنما العلم خلق للرجال وحدهم فى حين أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف به طائفة دون أخري، فكأنهم هكذا يجرحون مشاعرنا علنا معلنين نريدكم خادمات منازل فقط وليس سيدات مهذبات ومتعلمات، وكيف تنكرون علينا حقوقنا الطبيعية بينما هم يطالبون الدستور؟» (ص٦٢) ثم تنتقل باحثة البادية إلى حالة المرأة فى سن الشباب فتقول: «وفى سن الشباب نحن لا نزيد على المساجين شيئا إلا بالاسم فقط فبينما الفتى نجده حرا فى كل شيء نجدنا وهم يحجرون علينا حتى فى استنشاق الهواء النقي، وحتى فى اختيار لون ثيابنا، وإذا سمح لنا ببعض التنزه أو المشى رمانا المارة بألفاظ معيبة وأخجلونا ببذاءتهم، وهم أولى بالخجل من وقاحتهم وفحشهم وإذا تزوجت الفتاة فإنها لم تنل إلا مزيدا من الضغط اذ يستقوى الرجل ويستبد، فتكتم حريتها إلى درجة تميت نفسها وتعدمها القدرة على الإحساس والحياة - أرأيت أكثر طغيانا من الرجل الذى يمنع زوجته من رؤية أمها وأهلها دون جناية حدثت معهم، أرأيت أكثر طغيانا من ذلك الزوج الذى يمنع الزائرات من دخول بيته ويحجب زوجته عنهن خوفا من أن يفسدنها عليه أو يعلمنها شيئا جديدا يأباه جموده وظلمه؟ وهو يتحكم فيها وفى صحتها وفى مالها وفى وقتها وفى حريتها وفى كل شيء ويأبى عليها أن تسأله سؤالا بسيطا عن عمله بدعوى أنها لا تفهمه، ولا عن نفقاته معللا ذلك بأن هذا تدخل فى شئونه» (ص٦٣).. والآن عزيزى القارئ ها هى باحثة البادية تستعيد حيويتها وهجماتها القاسية ضد ظلم الرجل للمرأة.. ولكن ربما دون ألفاظ قاسية، لكنها تواصل دفاعها المجيد عن حقوق المرأة فتسأل: «وهل ثمة احتقار للمرأة أكثر من أن يجلس الزوج إلى طعامه وحده، ولا يدعوها لمشاركته، فإذا فرغ من طعامه تأخذ لقمة من هنا ولقمة من هناك كما يفعل الخدم؟ وإذا غاب ليلا يتحتم عليها السهر إلى أن يحضر. وإذا مرضت لا يناولها جرعة من الدواء بل ولا يبقى معها فى البيت ويتركها مريضة ويخرج وليس أصعب على المريض أن يرى نفسه مهملا ومتروكا» وتمضى باحثة البادية وقد شحذت سلاح دفاعها عن المرأة وحقوقها فتقول: «يظهر احتقار الرجل للمرأة جليا فى أفعاله فإذا حزن يوما لا يكاشفها بما يؤلمه وإذا نوى الشروع فى عمل فإنه يعتبرها غريبة عنه ولا يخبرها بخبره. فلا يعتبرها إلا طاهية أو خادمة.(ص٦٣) وتنعى باحثة البادية على الرجال الذين زاروا أوروبا ورأوا كيف تحترم المرأة وكيف هى مقدمة عليهم فى كل مجتمع ثم يعودون ليعلنوا ضرورة احترام حقوق المرأة وأنها واجبة الاحترام ولكن لا يلبث كلامهم أن يذهب مع الهواء» (وإذا أذن لى القارئ فإن الكثيرين من رجالنا لم يزالوا كذلك يتحدثون ويكتبون ويخطبون مدافعين عن المرأة أما فى البيت وفى علاقاتهم مع زوجاتهم فلهم شأن آخر) (ص٦٤).
ثم تمضى باحثة البادية التى تثبت أنها تمتلك وعيا ومعرفة بدخائل علاقة الرجل الشرقى بزوجته لتقول: «أى ازدراء للمرأة ولحقوقها أن تخرج كلمة واحدة من زوجها فتجد نفسها وقد طلقت وتشتت شمل الأسرة، وأى أمل لها فى مستقبل مظلم لا تدرى متى ينهار بنيانه؟» وتصرخ قائلة: «إن الدين لم يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا من غير شرط كما يفعل الآن رجالنا وإنما جعل لها شروطا وقيودا» ثم نقول وكأنها تتأوه «وفى اعتقادى أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه وعلم أن امرأته مساوية فى جميع الحقوق المشتركة، وعاملها معاملة الند للند أو على الأقل معاملة الوصى لليتيم، وليس معاملة السيد للعبد لوجد من زوجته محبة وطاعة وقبولا.
وتختتم ملك حفنى ناصف مرافعتها الموجعة قائلة: «ما جعل الله لرجلٍ من قلبين فى جوف واحد فكيف ورجالنا بهذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة كلها وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟، أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحتراما لكنا لهم كما يحبون، فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم ولنا قلوب تشعر كما يشعرون فإن أرادوا إصلاحنا فليصلحوا أنفسهم أولا(ص٦٥).
وهكذا تستعيد باحثة البادية مجدها فى الدفاع عن حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل.. ونواصل.