من القصص المتوارثة عند الفلاحين قصة شيخ أبيض الشعر دخل أحد مقاهى المنصورة، وظل جالسًا وحده دون أن يكلم أحدا، حتى اقترب منه أفندى، وسأله: أأنت عرابى باشا الخائن، فبهت العجوز وصمت برهة، ثم قال: نعم، أنا عرابى، ولكننى لست خائنًا، ولست باشا، ثم انصرف إلى داره حزينًا وظل بها حتى مات، وللعلم؛ فإن هذه الرواية قد سجلها الراحل رفعت السعيد فى مقدمة كتابه «الأساس الاجتماعى للثورة العرابية»، وأظنها خير بداية عن هذا الرجل الذى ظلم حيًا وميتًا، وحين أنصفته ثورة ٥٢ وحولت «هوجة عرابى» إلى «ثورة عرابى»، وجدنا من يشكك فى وطنية الرجل وإخلاصه، ووجدنا من يحمله مسئولية الاحتلال الإنجليزى لمصر، وبالمناسبة؛ فإن هذه الاتهامات ليست جديدة، فقد أوردها الزعيم مصطفى كامل فى عدة مقالات نشرتها مجلة «اللواء» لسان حال الحزب الوطنى القديم، وواقع الأمر، أن ثورة عرابى قد بدأت بمطالب فئوية تخص الجيش وتستهدف إنصاف ضباطه من المصريين الذين كانوا محرومين من الترقى إلى الرتب العليا، بينما كان ينعم بها أصحاب الجنسيات الأخرى، ومن هنا فإن مطالب عرابى ورفاقه تعد أول مطالب ترنو إلى فرض فكرة القومية المصرية التى كان قد كتب عليها الموت منذ انتهت الحضارة الفرعونية وتغلبت علينا الأمم، وصرنا أتباعًا يحكمنا الأغراب، ويعين علينا الولاة من بغداد تارة ومن الآستانة تارة أخرى، واستسلم الشعب المصرى إلى هذا الوضع لقرون طويلة، وصار الفلاح أجيرًا عند الإقطاعيين من الأتراك، أو من البشوات الذين نالوا حظًا باقترابهم من دائرة السلطة، وفى هذه الأجواء المظلمة البائسة ولد أحمد عرابى الحسينى فى قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية فى عام ١٨٤١، ولم يعهد به والده إلى شيخ كتاب القرية كما كان متبعًا آنذاك، بل سلمه إلى صراف القرية ويدعى ميخائيل غطاس، فلازمه خمس سنوات تعلم فيها الحساب والقراءة والكتابة، ثم ألحقه والده بعد ذلك بالأزهر الشريف، فمكث فيه أربع سنوات، حفظ خلالها القرآن الكريم وتعلم الفقه والتفسير، وعاد إلى قريته شيخًا لمسجدها وواعظًا، وكان أهل قريته ينادونه بالشيخ أحمد، ولم يفارقه هذا اللقب حتى عندما صار جنديًا فى الجيش؛ حيث كان محمد سعيد باشا والي مصر قد أصدر أمرًا بإلحاق أبناء المشايخ والأعيان بالجيش جبريًا، وبالفعل تم تجنيد عرابى فى عام ١٨٥٤، وفى استعراض للجنود فى حضرة سعيد باشا أثبت الشاب أحمد عرابى كفاءة فى استخدام السلاح ولباقة فى الحديث وقدرة على قيادة الخيول فقرر سعيد إبقاءه فى الخدمة وترقيته، وبلغ إعجاب سعيد بعرابى أن قربه منه وولّاه قيادة لآلاى المشاة الأول، ولما مات سعيد وتولى إسماعيل تغيرت الأوضاع، فقد مضت الأيام الذهبية للجندى المصرى إلى حالها، وعاد الشراكسة من جديد ليسيطروا على كل شىء فى الجيش، وظل عرابى ما يقرب من عشرين عامًا دون ترقية، ولما سافرت حملة الحبشة تم تعيين عرابى مسئولًا عن التموين، ولم تتح له فرصة للقتال، وشاهد هزيمة الجيش على إيدى القيادة التركية فتولد الغضب بداخله هو ومجموعة من المصريين المخلصين، وما أشبه ذلك بما سيحدث فيما بعد، حين تولد الغضب بداخل عبدالناصر ورفاقه بعد النكبة فى ٤٨، ولما عاد عرابى قاد بعض رفاقه وقدموا احتجاجًا على سوء أوضاعهم لناظر الحربية، فتم تحويلهم إلى المحاكمة العسكرية وحكم على عرابى بالسجن ثلاثة أسابيع، ولكنه اعترض على الحكم، فتم فصله نهائيًا من الخدمة، وظل لثلاث سنوات يحاول العودة ويقدم المظالم للخديو، وأثناء ذلك التحق بوظيفة فى واحد من الدواوين، وتزوج من ابنة مرضعة أحد الأمراء فتوسطت له وأصدر الخديو إسماعيل قرارًا بالعفو عنه وإعادته للجيش برتبته نفسها التى كان عليها، وتولى عثمان رفقى نظارة الجهادية؛ فقرر منع ترقية الضباط المصريين وجعل المناصب القيادية للشراكسة فقط، ليعترض عرابى ومجموعة من الضباط المصريين على هذا القرار، واتفقوا على تقديم مذكرة إلى رياض باشا رئيس النظار (الوزراء)، وقد شملت هذه المذكرة ضرورة أن يكون ناظر الحربية أو الجهادية من المصريين، وأن تعدل قوانين الجيش لتسمح بترقية المصرى، وكذلك دعت المذكرة إلى ضرورة وجود مجلس للنواب يمثل الشعب المصرى، ويؤكد عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الرابع من كتابه «مصر المجاهدة فى العصر الحديث»، على أن هذه العريضة تعتبر فاتحة الثورة العرابية، وقد قدمها عرابى مع اثنين من زملائه فى السابع عشر من يناير ١٨٨١ إلى رياض باشا، والذى رفعها إلى الخديو توفيق فأمر بالقبض على عرابى وزميليه وسجنهم، فلما علمت بعض الوحدات العسكرية بهذا الأمر تحركت لمنع تنفيذه، وعلم القنصل الفرنسى والإنجليزى بأن وحدات من الجيش قد خرجت من ثكناتها فطلبوا من توفيق العدول عن قراره فورًا وإلا دفع عرشه ثمنًا له، وأثناء هذه الاتصالات والمداولات كانت حركة الجيش أسرع؛ حيث احتشد المئات من الجنود فى ميدان عابدين بأسلحتهم، وارتفع سقف المطالب من إلغاء قرار القبض على عرابى إلى إقالة الوزير عثمان رفقى وتعيين محمود سامى البارودى بدلًا منه، ولم ير الخديو بدًا من الإذعان إلى مطالب الجند، وهكذا انتصرت الحركة وتحقق لها فى يوم واحد ثلاثة مطالب، فقد تم العفو عن عرابى وزميليه، وتم عزل عثمان رفقى، وأسندت الوزارة إلى رجل يثقون به ويناصرهم، وظل الأمر هكذا حتى يوليو ١٨٨١، حين قرر توفيق عزل البارودى من منصبه، فهو لم يتناس أن البارودى ليس اختياره ولكنه آثر السلامة وصمت حتى جاءته الفرصة بعد مقتل أحد الجنود فى الإسكندرية بواسطة سائق أوروبى، فثار الجند لزميلهم وحملوا جثمانه إلى قصر رأس التين، وكان توفيق به وأحدثوا جلبة وفوضى فأطاح توفيق بالبارودى.. وللحديث بقية.
آراء حرة
أحمد عرابي المفترى عليه "1"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق