رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الصورة وتزييف الواقع «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من سمات عصرنا الراهن هيمنة «الصورة» وسيادتها، لتكون إحدى أهم الأدوات المعرفية والثقافية والاقتصادية. وقد شهدت «الصورة» عدة تحولات مختلفة، أثرت بشكل كبير فى إنتاج مفاهيم جديدة، أسهمت فى إثراء جميع الأنشطة الثقافية والمعارف الإنسانية والقيم والمعانى الجمالية. وقد قال «أرسطو» إن التفكير مستحيل بدون صور، فالصور تملأ الحياة العصرية وتغزو الأمكنة والأزمنة وتعايش الإنسان منذ بدء الخليقة، وهذا ما أكده المفكر الفرنسى «رولان بارت»، حين رأى أن الصورة جاءت لتكسر الحواجز والسدود أمام الجماهير، وتلغى التمييز الثقافى والطبقي، وتقتحم إحساسنا الوجدانى وتتدخل فى تكويننا العقلي؛ بل إنها تؤثر فى حياتنا الاجتماعية والسياسية. وفى ظل ثقافة العولمة التى غزت عالم التكنولوجيا ووسائل الاتصال، والتى توظف إمكانيات الإعلام بطريقة محكمة، أصبحت الصورة فى كل مكان، ولم يعد ممكنًا أن نفكر فى كثير من أمور حياتنا اليومية دون أن نفكر فى الصور.
وقديمًا أدرك ذلك «أوفيد» Ovidius (٤٣ B.C –A.D ١٨) حين قال: «ليس فى الكون كله ثمة شيء ثابت، فكل شيء فى تغير مستمر يسيل كالماء، وأشكال الكائنات عارضة». أما الآن ونحن فى القرن الحادى والعشرين وبعد ثورة الإعلام والمعلومات وبث الصور التليفزيونية عبر الأقمار الصناعية، إلى أى مكان فوق سطح كوكبنا، فقد أصبح ممكنًا ابتداع عالم من الخيال يسمى «الحقيقة الوهمية» والمقصود به فن صناعة «عالم من الصور»، يمكن أن يظهر لنا وكأنما قد حل محل «الواقع الفعلي»، أو هو بالأحرى «واقع لا واقعي»، يجرى ابتداعه بالكمبيوتر، حتى يبدو لحواسنا أكثر حقيقة من الحقيقة.
تعطى بعض القواميس تعريفات كثيرة لكلمة «صورة» بدءًا من الإشارة إلى عملية إعادة الإنتاج (أو النسخ) للشكل الخاص بإنسان أو بموضوع معين، إلى الإشارة إلى كل ما يظهر على نحو خفي؛ وبخاصة إذا كان غريبًا أو غير متوقع. وبين هذين المعنيين تشتمل التعريفات على استخدامات خاصة للمصطلح تجسد الخصائص المرتبطة بالصور المرئية، وكذلك الجوانب العقلية، التى تشتمل على الوصف الحي: كالاستعارة الأدبية والرمز، وكذلك الرأى أو التصور، والطابع الذى يتركه شخص أو مؤسسة، كما تقدمها وسائل الإعلام الجماهيرية. وقد جاءت كلمة «الصورة» فى الاصطلاح اللغوى (بالضم وسكون الواو) بمعنى الشكل، والجمع صُوَر وصِوَر وصُوًر، وقد صوره فتصور، وتَصَوَرتُ الشيء: توهمت صورته فتصوَر لي. والتَصاويرُ: التمَاثيلُ. وقال «ابن الأثير» (١١٦٠ – ١٢٣٢ ): الصورة ترد فى كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته. يقال: صورةُ الفعل كذا وكذا أى هيئته، وصُورةُ الأمر كذا وكذا أى صفته. أما التصوُر فهو حصول صورة الشيء فى العقل، أى تخيل صورته فى ذهنه. وفى علم النفس: استحضار صورة شيء محسوس فى العقل دون التصرف فيه، بمعنى أنه عملية تكوين الأفكار وإحياء منبهات ومثيرات بذهن الفرد، غير قائمة أمامه وقت قيامه بعملية التصور. وعند المناطقة هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفى أو إثبات. وأما التصوير فهو إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني، أى نقش صورة الأشياء أو الأشخاص على لوح أو حائط أو نحوهما بالقلم أو بآلة التصوير.
وتمتد كلمة «صورة» بجذورها إلى الكلمة اليونانية القديمة أيقونة εἰκών ، التي تشير إلى التشابه والمحاكاة، وتعنى أيضاً الكتابة المقدسة. وقد تُرجمت إلىImago في اللاتينية وImage في الإنجليزية. وتعبر «الأيقونة» في الفكر اللاهوتي عن اللا منظور، وتتجلى بوصفها صورة صادقة مشابهة للإله، أو هي رمز صادق للإله الحق (أو غيره من شخوص Personae مقدسة كالمسيح). وتُعد«الأيقونة»– من هذا المنظور – إحدى التنويعات العديدة على تفرقة «أفلاطون» Plato (٤٢٧ – ٣٤٧ B.C ) بين نوعين من الصور المنعكسة: صور صادقة تقوم على التشابه مع المثل، وصور زائفة تفتقر إلى ذلك التشابه. أما في الاصطلاح السيميوطيقى Semiotics فهي تشير إلى العلامات التي تكون فيها العلاقة بين الدال والإحالة إلى المدلول، على أساس المشابهة والتماثل. ولعل أول من قدم تعريفاً للأيقونة هو الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس Peirce (١٨٣٩ – ١٩١٤ ) قصد بها العلامات الأولية أو تلك العلامات التي تحيل إلى موضوعاتها أو إلى مرجعها من خلال التشابه بين الصورة والموضوع، مميزاً بينها وبين "الإشارة Indice التي تشير إلى موضوعها نتيجة لوجود ترابط ديناميكي بينها وبينه من جهة وبينها وبين حواس الشخص من جهة أخرى. وأما من حيث كونها رمزاً Symbole، فإنها تشير إلى موضوعها من خلال الذهن والفكر الذي يستخدمه، مثل: الألفاظ اللغوية ذات الطبيعة العامة والكلية كمفهوم الإنسان، وبالتالي فإن الرمز لا معنى له في ذاته؛ بل يتحدد معناه فقط من قِبَل الذين يستخدمونه بطريقة اصطلاحية، ولكن هذه الاصطلاحية لا تجرى بطريقة عشوائية، إذ إن طبيعة الموضوعات ذاتها هي التي تحكم اتفاقنا على رمز معين وكيفية استخدامنا له.