تواصل «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته
وفيما لم نزل مندهشين إذ نسأل كيف صمت مفكر الأعيان الليبراليين أحمد لطفى السيد إزاء هذا الاستعلاء من جانب باحثة البادية وتكفيرها لكل امرأة تستخدم ما نسميه نحن الآن «الماكياج»؟ وهو ما لم يجرؤ عليه عتاة المتأسلمين.. نواصل محاولة التعرف على ليبرالية «حرم شيخ العرب» ونأتى إلى المقال العاشر وعنوانه «مبادئ النساء - المبدأ الأول عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء» وتبدأ باحثة البادية بداية تليق بموقفها فتقول: «أول مبدأ تحفظه المرأة الجاهلة عند زواجها هو عدم الثقة بزوجها مهما أكد لها براءته من تهمة الخيانة، ومهما كان الباعث على تغيبه عن منزله، فتراها إذا ترك زوجها ديوان عمله وذهب للغداء عند زميل له تتكدر وتثور زوابع غضبها وتتهمه إما بزواج جديد وإما بمصاحبة غير شرعية، تراها لا تصدقه حتى ولو قال الحقيقة فإذا تغيب عن البيت ليومين أو ثلاثة لأمر متعلق بعمله تتهمه بالتغيب عند زوجته الثانية» ثم تقول: «ومبدأ عدم الثقة هذا يسبب ما تخافه المرأة، ويصير الخيال حقيقة، فيلتفت الزوج إلى ما تقوله امرأته ولا يلبث أن يتزوج أو يصاحب لأنها علمته أن هذا أمر مستطاع. (ص٣٩) وإذا استمر الأمر على هذا المنوال نغصت عيشتها وعيشة زوجها، لأن السعادة والشقاء وهميان، فإذا تخيلت أنى سعيدة انبسط أمامى الكون ووجدت من ثقتى بسعادتى سعادة حقيقية، وإذا انقلب الأمر رأيت كل حادث هين جالبا للشقاء». ثم تقول «فإذا فقدت المرأة الثقة فى زوجها فقد يفقدها هو أيضا منها فيا لهول هذه العيشة النكدة» (ص٤١). ثم تنتقل بنا باحثة البادية إلى المبدأ الثانى من مبادئ النساء وهو «كراهية أقارب الزوج» وتقول: «ما تحبه النساء أن يكون أزواجهن لا أهل لهم، فترى الخاطبة وهى تذكر أول حسنة للعريس أنه «مقطوع من شجرة». (ص٤٣).
وتنصح ملك حفنى ناصف فتيات الجيل الجديد وأذواقهن تختلف عن ذوق الحموات شريكاتهن فى المنزل بألا يلجأن إلى المعاندة والمخاصمة فهذه من صفات الطبقة الدنيا. فالزوجات المتمدنات يجب أن يخفضن قليلا من غلوائهن ولا يبخلن على الحاكمة القديمة فى البيت بشىء من السلطة فى البيت، لأن من تعود الحكم يصعب عليه أن تنتزعه زوجة الابن منه (ص٤٥).
ثم تنتقل ملك حفنى ناصف إلى مقال ثالث تحت عنوان «مبادئ النساء» وهو «المباراة والإسراف». فتقول: «يمتاز الجيل السابق على أخيه الحالى بقلة اللزوميات». وتقول ملك حفنى ناصف: «نفقات الأسرة اليوم كثيرة لتعدد الحاجات وغلائها، لأننا نتأنق فى الكماليات الزائدة ونقلد الغير ممن هم أوسع ثروة وأفخم مظهرا، ولا مبرر لنا فى ذلك إلا الحرية الشخصية وحب التقليد، والتقليد إلى درجة التلف، فليس من العقل فى شيء، ولا أعتقد أننا نميل إلى تأييد مذهب داروين فى النشوء والارتقاء، ولا أتخيل أننا نريد أن نأخذ من ذلك المذهب ما يدل على قدرتنا فى التقليد مثل قدرة القرود. (ص٤٦). وتمضى ملك حفنى ناصف: «إذا استثنينا الطبقة السفلى من النساء فإننا نكاد نرى الباقى من نساء الوسط ومن الثريات شبيهات فى الملبس والزينة تساوى الواحدة الأخرى فى عدد الخدم وكمية الأثاث ونوعه، فهل يمكن أن نكون كلنا فى درجة متساوية من الغني؟ هذا مستحيل. وإذا لم نكن متساويات فى ماليتنا، فمن أين نسد هذا العجز فى النفقة؟» ثم هى تمضى قائلة: «إذا تزوجت الواحدة منا كلفت أباها ما لا طاقة له به كى لا ينقص جهازها عن فلانة جارتها أو قريبتها، فإذا كان قادرا فلا انتقاد عليه، ولكن إذا عجز فمن فساد الرأى أن يستدين ليكتسب فخرا كاذبا لا تزيد مدته على يومين، وإذا تزوجت الفتاة لم تقبل أن ترى صاحبتها تشترى عشرة أثواب بينما هى لا تشترى إلا أربعة، وكيف تجد عند جارتها خمس خادمات فيهن أوروبيات وليس فى بيتها إلا خادمة مصرية وهى فى الواقع كافية. ولكن المرأة دائما ما تزن نفسها بميزان الغير وتستمر فى تقليده». (ص٤٧) وتمضى باحثة البادية لتفسر الأمر قائلة: «إن السبب فى هذه المباراة هو الحسد الذى يأكل القلب ويكثر الهم فلا تطيق صاحبته أن ترى من هى أجمل منها أو أغنى مظهرا، وهى تزهو دوما إذا سمعت أن البعض يتحدث عن مظهرها الفخم وعرباتها الجميلة وخدمها الكثير، وبعضهن تبيع مصاغها أو شيئا من أملاكها لتشترى سيارة أتومبيل أو لتسافر إلى أوروبا، لا لأنها تحب السياحة وإنما لأن غيرها فعلت ذلك»، والمثير للدهشة فى هذه المقالات الأخيرة أنها متعقلة، وخالية من الشتائم، وإنما تكتفى بالنصائح، بل إنها تأتى أحيانا بعكس ما قالت من قبل، فهى لا تعتبر الفقر كما سبق أن قالت إنه بذاته يسبب انحطاط الأخلاق، لأن الفقيرات هن بالضرورة بلا خلق وبلا أدب، فتقول فى نهاية هذه المقالات الثلاث: «الفقر وحده لا يهبط بالإنسان من رفعته، فالاعتبار بالنفس والفضائل لا بالثراء وعدمه، وماذا يضر المجتمع الإنسانى إذا كنت أنا فقيرة وصاحبتى غنية؟»، ثم تقول: «إن القناعة خير ذخيرة للقاصرات» وفى الختام تقول: «والخلاصة أن الغنى ليس متيسرا لكل فرد ولا بد لكل فرد أن يلزم حدوده» (ص٥٩).
وأصدق القول إذا قلت إن هذه المقالات هى محاولات اجتماعية مهذبة ومتعقلة فى نصح نساء زمانها بما يجعل من باحثة البادية مصلحة اجتماعية حقا، فهل ستستمر هكذا؟ هذا ما سنراه فى مقالاتنا القادمة.