في الدستور المصري المعدّل عن الدستور المعطل الذي سيجري الاستفتاء عليه، مواد من أجمل ما يكون، مثل المادة 51: "الكرامة حق لكل إنسان ولا يجوز المساس بها وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها"، والمادة 52: "التعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم"، والمادة 53: "المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر، والتمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير للقضاء على كل أشكال التمييز وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض"، والمادة 54: "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تُمسّ... الى آخر المادة"، والمادة 55: "كل من يقبض عليه أو يحبس أو تُقيّد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه... إلى آخر المادة"، وهذه نصوص رائعة ولكن تبقى حبرا على ورق طالما لم تُبعث فيها الحياة وتطبّق في الواقع الملموس وبتضحيات هائلة،
فقد صدر قانون عدم التمييز ضد السود في أمريكا ولم ينفذ إلا بشجاعة من أراد إدخال أولاده إلى مدارس البيض فلاقى ما لاقاه بعد أن أصر على دخولهم في حماية الشرطة، وأيضا لم يتنازل البيض عن هذه التفرقة البغيضة إلا بعد أن لاقى القس الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينج حتفه على يد عنصري.
فقدت لوحتي المعدنية الأمامية لأن الونش عندما سحب السيارة إلى جراج المرور تفكّكت الصواميل ووقعت اللوحة المعدنية، ولما توجّهت إلى القسم التابع له لكي أحرّر محضراً لأستطيع صرف لوحات معدنية أخرى، وجدت مكتبا طويلا عليه أربعة أمناء شرطة، وفي آخر المكتب ملازم أول يصفع مواطنا صفعا قاسيا، والمواطن يصرخ والدم يخرج من فمه في منظر لا يليق بأمة متحضرة، بل ما بالك بأمة متدينة، وكلما أردت أن أخاطب أمين الشرطة انهالت صفعة على وجه المواطن وعلا صراخه ولم أستطع أن أوصل صوتي إلى أمين الشرطة، ولا أعلم لماذا نظرت إلى الضابط وخرجت مني كلمة لا أعلم كيف قلتها، وهي: "الرحمة يا أفندم"، فنظر لى حضرة الضابط نظرة قاسية وقال: "تعال لي ياروح أمك"، ولما كنت مواطنا صالحا أطيع الجهاز التنفيذي كل الطاعة، ذهبت إليه فأمسكنى من ياقة الجاكيت والقميص معا، وقال لي: "امشي قدامي يا روح أمك"، ومشينا - ولحسن حظي - كان هناك باب مفتوح يجلس عليه ضابط على كتفيه نسر ونجمة أو نجمتان، وقال بصوت عالٍ: "يا محمد باشا.. واخد الأستاذ هاني ورايح على فين؟، تعالولي"، وقد كان في منتهى الأدب والذوق، وعندما سأل محمد باشا عما حدث قال محمد باشا باستنكار: "ده قال لي الرحمة يا باشا"، فقال الضابط الكبير: "انت ما تعرفش ده مين؟!، ده الأستاذ هاني إللي بيطلع في التليفزيون وممكن يقول كلمتين في حقنا"، فتشجعت وقلت: "هي الرحمة يا باشا كلمة أبيحة؟"، وأردفت قائلا: "على العموم أنا أخطأت بطلب الرحمة منك، لأنك لم تراع سنّي ولا شعري الأبيض ولا أن شكلي ليس من معتادي الإجرام، ولم أدخل قسما من قبل، ولكنني خشيت أن أطلب الرحمة من الله فتشلّ يدك"، فقال الضابط الكبير: "اتفضل انت يا محمد باشا، وانت كنت عايز إيه يا عمّ هاني؟"، قلت: "أعمل محضر لفقد اللوحة المعدنية"، فنظر لي لائما وقال: "كنت ابعت أي حدّ"، فأردت إنهاء هذا الحديث لأنه استدعى أحد الأمناء وكلفه بعمل المحضر.
وأنا اتعهد بعد بأن اقول نعم على هذا الدستور، أنا وكل من يريدون الخير لمصر، وأن أحتفظ بنسخة في جيبي، وأن أقف مع أي إنسان يتعرض للتعذيب مشهرا المادة 55 في وجهه من يعذّبه، حتى وإن سجنت أو فقدت حياتي في سبيل بعث الحياة في هذه النصوص النبيلة، وحتى لا تبقى حبرا على ورق.