هناك حلم مستمر فى عالم التكنولوجيا بأن يصبح الكوكب الذى نعيش فيه مكانًا أفضل عندما يصبح كل من عليه من ناس وبيانات متصلين بعضهم ببعض. وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن الوصول إلى هذا الأمر أخذ يتحول إلى كابوس، حيث المليارات من الأشخاص متصلون ببعضهم بعضًا، ولكن من دون ما يكفى من الهياكل القانونية أو الحماية الأمنية أو «العضلات الأخلاقية» بين الشركات والمستخدمين للتعاطى مع كل هذه الاتصالات.
وبدأنا نشعر مؤخرًا بأننا جميعًا متصلون ببعضنا البعض، ولكن من دون أن يكون ثمة من يتولى الإشراف على ذلك. فشركة «إيكويفاكس»، مثلًا، أصبحت بارعة فى جمع كل بياناتك الائتمانية الشخصية -من دون إذنك- وبيعها لشركات ترغب فى إقراضك مالًا، ولكنها كانت جد متراخية بخصوص حفظ وتأمين تلك البيانات، لدرجة أنها تقاعست عن الاستعانة بحلول بسيطة لأمن البرامج الحاسوبية، وتركت ثغرة تتيح للقراصنة الحصول على أرقام الضمان الاجتماعى وغيرها من المعلومات الشخصية لنحو ١٤٦ مليون أمريكي، أو قرابة نصف سكان الولايات المتحدة.
«فيسبوك» و«جوجل» و«تويتر» تمثّل أشياء أخرى فى ذهني، فـ«تويتر» مكّن أشخاصًا أكثر من أى وقت مضى من المشاركة فى الحوار العالمي، و«فيسبوك» مكّن أشخاصًا أكثر من أى وقت مضى من الاتصال ببعضهم البعض وإنشاء مجموعات افتراضية، و«جوجل» مكّن كل شخص من إيجاد أشياء مثلما لم يحدث أبدًا من قبل، وهذه كلها أشياء جيدة من دون شك، ولكن الشركات الثلاث هى أيضًا مشاريع تجارية، والانتخابات الأخيرة تشير إلى أن كل هذه الشركات وصلت عددًا أكبر من الناس مما تسمح به قدرتها، وكانت ساذجة بشأن عدد الأشخاص الأشرار الذى يسيئون استخدام منصاتها.
ومثلما قال لى «مارك وورنر»، العضو «الديمقراطي» فى لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، فإنه «حتى الآن، لا تأخذ هذه الشركات التهديدَ الذى تطرحه روسيا وجهات خارجية أخرى بالنسبة لنظامنا على محمل الجد بما يكفي، أو استثمرت ما يكفي، أو كشفت عما حدث حقًا فى (انتخابات) ٢٠١٦ - أو ما الذى ما زال يحدث الآن».
ففى نوفمبر من العام الماضي، قلّل المدير التنفيذى لـ«فيسبوك» مارك زوكربرغ من شأن أدلة على أن بعض الأشخاص يستخدمون «فيسبوك» لنشر أخبار زائفة بهدف التأثير على الانتخابات الأمريكية قائلًا: «إنها فكرة جنونية»، ولكن الأسبوع الماضي، وبعد الكشف عن المئات من الحسابات التى لها علاقة بروسيا، حيث قام أشخاص وهميون انتحلوا صفة نشطاء أمريكيين بنشر رسائل نارية حول الهجرة والأسلحة وهاجموا هيلارى كلينتون ودعموا دونالد ترامب، اعترف زوكربرغ بأن «وصف ذلك بأنه جنونى كان استخفافًا وأنا نادم عليه».
والواقع أن أحد أسباب بطء «فيسبوك» فى الرد هو أن نموذج الأعمال الذى يتبناه يقوم على جذب كل قراء صحف ومجلات التيار الرئيسى فى الإعلام وجذب المعلنين فيها، ولكن مع أقل عدد ممكن من محرريها، والحال أن المحرر هو إنسان عليك أن تدفع له أجرًا من أجل الإشراف التحريرى على المحتوى الذى تنشره على موقعك الإلكتروني، وذلك حتى تتأكد من أن الأشياء التى عليه صحيحة ودقيقة وتصحّحها إن لم تكن كذلك، ولكن الشبكات الاجتماعية آثرت استخدام الخواريزميات بدلًا من ذلك، غير أن هذه الأخيرة من السهل خداعها والتلاعب بها.
إن الديمقراطية الأمريكية مبنية على مبدأين: الحقيقة والثقة، فنحن نثق بأن انتخاباتنا نزيهة، وهو ما يتيح التداول السلمى للسلطة، ونثق بأن الأخبار التى نتلقاها من منابرنا الإعلامية صحيحة، وبأنه يتم تصحيحها إذا لم تكن كذلك، ونتوقع من رئيسنا أن يدافع عن الاثنين، ولكن اليوم، يتلقى الكثير من الأشخاص الأخبار من منصات تلوَّث بسهولة بالأخبار الزائفة من قبل قراصنة روس أو آخرين، ورئيسنا كاذب يرفض محاسبة روسيا عن أى شيء. وهذا من دون شك وضع سيئ للغاية.
ولكن هل أصبحت «إيكويفاكس» وهذه الشبكات الاجتماعية جزءًا أساسيًا من نمط حياتنا، وتأثيرات إخفاقاتها جد مهمة، لدرجة أنه بات من الضرورى تقنينها وتنظيمها بطرق جديدة؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه هو أنه حان الأوان لهذا النقاش، وقد بدأ بالفعل منذ بعض الوقت. هذه الشركات تجنى أرباحًا بمليارات الدولارات من بيع بياناتنا، ولكن موقفها غير واضح بشأن تحمل المسئولية «عن استخدام وإساءة استخدام منصاتها»، كما يقول أستاذ الفلسفة السياسية، مايكل ساندل بجامعة هارفارد، الذى يضيف: «لا يمكن أن يكون لها الأمران معًا، فإذا قالت إنها مجرد «أنابيب وأسلاك» محايدة، مثل شركة الهاتف أو شركة الكهرباء، فينبغى أن تقنَّن باعتبارها مرافق عامة، وبالمقابل، إذا كانت تريد الحريات المرتبطة بالإعلام، فإنه لا يمكنها التنصل من مسئولية نشر الأخبار الزائفة».
فى بداية القرن العشرين، يضيف ساندل: «جلب ظهورُ الاحتكار وتركز القوة الاقتصادية حقبةً من الإصلاح التقدمى الذى قنّن ونظّم مجالات السكك الحديدية والبنوك والمرافق التى تخدم المصلحة العامة، واليوم، نحن فى حاجة لروح مماثلة من الإصلاح، فهذه المنصات باتت جد مهيمنة، لدرجة أننا صرنا غير قادرين تقريبًا على الاستغناء عنها، على غرار الأسلاك الكهربائية أو الخطوط الهاتفية، ولكن عندما تسمح تلك المنصات بقرصنة بياناتنا الشخصية -أو انتخاباتنا- فليس ثمة أشياء كثيرة نستطيع فعلها حيال هذا الأمر». ويضف قائلًا: «لقد استطعنا إيجاد طرق لكبح السلطة الكبيرة المرتبطة بالثورة الصناعية قبل قرن من الزمن، واليوم، نحن فى حاجة لإيجاد طريقة لكبح السلطة الهائلة المرتبطة بالثورة الرقمية».
الترجمة نقلا عن «الاتحاد الإماراتى»