انشغل المصريون، بانتخابات منظمة اليونسكو، وكانت أنفاسهم تتعلق بفوز المرشحة المصرية، مشيرة خطاب، التى أدارت معركة دبلوماسية، نظيفة، شريفة، مبهرة، تضيف لمكانة المصريين، ولا تخصم من رصيد دولتهم لدى المجتمع الدولى، فالمرشحة المصرية، وصلت بنزاهة إلى نهاية السباق، رغم الصفقات المشبوهة والرشاوى، أما المرشح القطرى، فخرج بفضيحة دولية مدوية.
فى الجولة النهائية دعمت مصر المرشحة الفرنسية فى مواجهة المرشح القطرى، ولم يكن ذلك إلا اتساق مع الموروث الحضارى والتاريخى للدولة المصرية، باعتبار أن فرنسا دولة مؤثرة فى الحضارة الإنسانية، فضلا عن جوانب أخرى، فى مقدمتها العلاقات التاريخية الوطيدة بين مصر وفرنسا، ولم يكن نكاية فى قطر وحكامها، الذين عقدوا الصفقات المشبوهة ليس بغرض الفوز، إنما لإخراج مصر من رئاسة المنظمة الدولية.
أنا هنا لن أتوقف كثيرا عند الرشاوى التى دأب حكام قطر على استخدامها فى المحافل الدولية، بداية من رشوة الفيفا لاستضافة كأس العالم فى الدوحة، وليس انتهاء بما جرى قبل يومين فى منظمة اليونسكو، كما أننى لن ألتفت إلى أساليب كيد النسا فى سياستهم، وإن كان مهمًا التأكيد على أنهم مجرد سفهاء يبددون ثروات شعب مغلوب على أمره، تارة لإثارة القلاقل فى بلدان الخليج العربى، وتارة أخرى، للنيل من مصر فى المحافل الدولية، مرة يدفعون مئات الملايين من الدولارات حافزًا لفريق الكونغو لكرة القدم، فى مسابقة رياضية دولية، مقابل الشماتة فى مصر، ولم يتحقق لهم ما أرادوه، ومرة يدفعون أضعاف تلك المبالغ رشاوى لممثلى بعض الدول، مقابل إخراج مصر من رئاسة اليونسكو، فكانت الفضيحة حليف القطريين فى الحالتين.
قصد القول إن أطراف الصفقات المشبوهة لا يدركون تبعات حجم الجرم الناتج عن دعم دولة بلا حضارة أو تاريخ، تريد أن تترأس منظمة معنية بالثقافة والعلوم الإنسانية، اعتمادا على الرشاوى، رغم علم الجميع بأن «فاقد الشىء لا يعطيه»، أما الطرف الراشى «حاكم قطر» فهو ثرى، سفيه، يريد شراء، تاريخ ومجد، على طريقة الفئات الـ «واطية» الباحثة عن شراء أصول بـ«فلوسهم»، ظنا أن الأموال تصنع لهم جذورا من العدم.
فى هذا السياق، هناك تساؤلات ملحة تفرض نفسها، وأرى أن طرحها ضرورى.. ما علاقة قطر بمنظمة معنية بالتراث الثقافى والحضارى للأمم؟
لماذا تحاول قطر أن تتصدر مشهدا،لا ناقة لها فيه ولا جمل؟.. هى دولة داعمة للإرهاب، والإرهابيون لا يعنيهم التراث الإنسانى، دمروه فى العراق وسوريا، ويحاولون تدميره فى أى مكان.
على أى حال،انتخابات المنظمة الدولية ذكرتنى بقصة لا أمل من تكرارها، سواء سردًا أو كتابة، فقد روى، لى، صديق كان يعمل قبل عدة سنوات مترجمًا بالمخابرات القطرية، وذات يوم، ذهب مع عدد من زملائه «مصريون وسودانيون وفلسطينيون»، لزيارة متحف آثار قطر، ظن صديقى وزملاء رحلته، أنهم سيشاهدون تراثا إنسانيا وحضاريا وثقافيا، يجسد، بفخر، نضالات حكام قطر عبر الأزمنة المختلفة، كما ظنوا أنهم سيشاهدون متحفا للتراث الإنسانى والحضارى،على غرار المتاحف العالمية، مثل متحف القاهرة أو متحف اللوفر، أو غيرهما من المتاحف التى خلدت تاريخ الشعوب وحضاراتهم، لكن خاب ظنهم، فأثناء تجوالهم داخل الأروقة والقاعات الفخمة، التى تشير إلى بذخ وسفه، لا يتسق مع طبيعة المتاحف.
لفت نظرهم، أن معظم المقتنيات، لا تعبر عن أى مكون ثقافى، يدعو أحدًا للتباهى به، فالمقتنيات، بحسب رواية صديقى عبارة عن صناعات فخارية بدائية، مثل الموجودة فى الريف المصرى من الصعيد إلى الدلتا، «طواجن وأباريق ومواقد خاصة بطهى الأكلات السائدة وغلى البن»، أظن وليس كل الظن إثم، أنها مجلوبة من الخارج، كما يتم جلب كل شىء بأموال النفط، فالأوانى مصنوعة من الطمى، وقطر ليس بها تربة طينية منذ بدء الخليقة، فمتى صنعها أجدادهم؟.
صديقى صعيدى ابن نكتة، وتعبيراته الساخرة، مشحونة بالتلقائية والعفوية، لذلك لم يقترب من جلستنا الملل، وهو يروى لى قصة زيارته لمتحف آثار قطر، وحديثه الممتع عن تاريخها وحضارتها، وكلما حاولت إيقاف تدفق شلال السخرية، لكى أفيق من نوبة الضحك المتواصل، أجد فيضانا لا أستطيع مقاومته.
قال، المصيبة فى التزوير الفاضح للتاريخ، فقد وجدنا فى المتحف نوافذ وأبوابا خشبية وبقايا مراكب وحبال والكثير من أدوات الصيد، هذه المقتنيات، حرضت زميله، وهو سودانى الجنسية، على أن يسأل مدير المتحف، سؤالا مهينا فى مضمونه، قال له، بقايا المراكب وأدوات الصيد، من الممكن أن تكون جزءا من الموروثات، لكن ما علاقة النوافذ والأبواب الخشبية بالخيام، رد مدير المتحف، ماذا تقصد بسؤالك؟.. هل تقصد تاريخ هذه الآثار؟ هى تعود للقرن التاسع عشر، قال السودانى، يا أخى سؤالى واضح، وليس به طلاسم.
أدرك مدير المتحف مغزى السؤال، فاشتاط غضبا من السودانى، وبعد مشادات كلامية حامية، حضرت الشرطة وقيادات من المخابرات، وحاولت الاستفسار عن سبب المشكلة، قال السودانى، لم يكن هناك وجود لبلدكم فى القرن قبل الماضى، وكنتم جميعا تعيشون فى الخيام، وهذا ليس عيبا، فهذه طبيعة البيئة الصحراوية، والخيام ليست بها نوافذ خشبية، ولا أبواب خشبية، فكيف تقولون إنها تراث تاريخى يعبر عن حضارة الأجداد.
كان صديقى يروى لى تلك القصة، مقلدا لهجة زميله السودانى، فكان الضحك مصحوبا بالدموع، لكننى استوقفت استرساله فى الحديث، متسائلًا عن مصير زميله السودانى، قال لى، إنه خرج من المتحف إلى المطار، مباشرة، وتم ترحيله إلى بلده دون أن يحمل متعلقاته الشخصية.