الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سلامون.. وأدب الفكاهة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في ليلة الخميس، الثاني عشر من أكتوبر لسنة سبع عشرة وألفين جلست إلى المثقفين الكبيرين الأستاذ الدكتور عيد بلبع , والشاعر الكبير الأستاذ عبدالمنعم كامل، وسال بنا الحديث مسيلا مثيرا، وكان المحط حيث السلطوية المتجذرة في شخصية المصري وآليات ممارسته إياها، وتحديدا سلطوية التهميش , بمعنى كيف يمارس كل منا، من منطلق تميزه، سلطويته في تهميش دور غيره، فالمثقف يهمش من دونه معتقدا أنه هو فقط من يمتلك الرؤية الصائبة، فهو فقط من يعبر ويتكلم ويخطط لآفاق المستقبل حسب رؤيته معتبرا من دونه مجرد جوقة ليس بينها من يضاهيه ثقافة أو يماهيه فكرا .
وصاحب رأس المال يتحدث من فوق أعلى نقطة أمام آخر رقم في حوزته، ورجل الدين يعتقد أنه هو فقط من يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن بيده صكوك الغفران ومفاتيح رضا الرب أو سخطه، وهكذا دواليك، وأخذنا نضرب أمثلة من واقعنا المأزوم وهنا تذكرت قريتي سلامون، مهد الضاد وأم الفكاهة ومحط رحال الأدب، وتذكرت كيف مارس رجل الأمن ( الخفير النظامي ) سلطويته يوما على القرية بأكملها، وقد كلف من قبل الطبيب البيطري بأن ينبه على فلاحي قريتنا بإحضار المواشي، حفظكم الله، إلى ( أوضة التليفون) أي مقر الحكم والضبط والربط بالقرية، إلى اللجنة البيطرية لتطعيمها بأمصال بيطرية واقية، فما كان منه إلا أن أمسك بميكروفون المسجد، وأخذ يصيح قائلا ( على كل أهالي سلامون بقر وجاموس وغنم وحمير التوجه لأوضة التليفون للتطعيم ) ليصبح هذا النداء مثلا نتندر به إلى يوم الناس هذا، وبالبلدة من بها من كبار المتعلمين والمثقفين.
وتذكرت سلطوية خالي حبشي، وقد كان أكرم أهل القرية على الإطلاق، وكان مزارعا بسيطا ومتكلما لسنا، وهو واقف أمام المرحوم الشاعر الشيخ ناصر عطية، بعد أن جاء من مدينة طنطا ليلقى خطبة الجمعة، وكان مستشار لغة عربية وأديبا مفلقا وهو يسأله وقد كانا رفيقين صغارا في كتاب القرية( ألا ياشيخ ناصر انت بتاخد في الخطبة دي كام يعني؟؟ ، 
فقال له الشيخ , وكان على سجيته، 
خمسة جنيه يا حبشي 
قال له : يانهار أبيض، وتيجى من طنطا عشان خمسة جنيه
ياراجل دا أنا الحمار عندي بيجيب في مصنع الطوب عشرة جنيه في اليوم 
يعنى أنت بجلالة قدرك خطبتك ما حصلتش نص يومية الحمار )
فما كان من الأخير سوى أن كتب رائعته تلك متفكها قائلا:
قلت عفوا واعتذارا
حالف الحظ الحمارا
كلما حمل حملا
هز ساقيه وسارا
هادئ النفس سعيدا
ناهقا بين العذارى
ليس يعنيه حديدا
حمله أم كان قارا
قد كفاه الغير قوتا
وكفاه الغير دارا
أصعب الأحمال هم 
يشعل الأعصاب نارا
حامل الأثقال لا يخ
شى سقوطا أو دوارا
إنما يخشاه قلب 
تاه في دنياه حارا
صاحب العقل شقي 
يتمنى أن يوارى
ياصديقي غاب عنك ال
فكر عن دنياك طارا
نم سعيدا واشكرن مو
لاك إن كنت حمارا
خالي حبشي طيب الله ثراه مارس هنا سلطوية رجل الأعمال الذي يمتلك حميرا تعمل وتنتج وتدر، بينما مارس الشاعر سلطوية المثقف الفكه، وصارت تلك في قريتنا واقعة لا تنسى ,,
ورجعت بذاكرتي للوراء حيث المرحوم المثقف الكبير الشيخ عبدالجليل الذي ماعهدته يتحدث إلا الفصحى، ولا تعرف العامية إلى لسانه طريقا، وكان رجلا فقيرا، فتوجه إلى الشيخ عبدالحكيم عطية، وكان مزارعا بسيطا يزرع ما يؤكل لتوه من خضراوات وما شابه، في مساحة صغيرة إلى جوار النيل، فوقف أمامه الشيخ عبدالجليل ممارسا سلطوية المتمكن من لغته قائلا :
ياشيخ عبدالحكيم
هل عندك طماطم ؟
قال : نعم
قال : إذن زن لي بقسطاسك المبين ربع كيلو من الطماطم المحمرة المزمهرة التي لاعوج بها ولا عطب
طبعا الشيخ عبدالحكيم لم يفهم منه سوى أنه يريد نبات الطماطم
فأحضر له طورة أو يزيد
والطورة بلغة أهل سلامون أربع وحدات من الشيء 
ودفعها إليه هبة غير منتظر مقابلا
فقال له الشيخ عبدالجليل : ضعها على الميزان
ياعم خد وروح
لا...ضعها على الميزان
ياعم خلاص
لا.. ضعها على الميزان
روح ملعون أبوك لأبواللي جابك لأبو النحو بتاعك، أنت جاى تتقطم على وكمان مش عاجبك؟
وأصبح يحدث الخلق بما كان متبعا حديثه بكلمته الذائعة التي وقفت معاجم العربية أجمعها عاجزة عن تفسير معناها للآن (يادي الشخريرة).
ويحل الشيخ عبدالجليل ضيفا على الشيخ محمود الشيخ على رحمه الله فلا يعد له قرى أى لا يقدم له شايا ولا طعاما فيهب الأول قائلا : لقد نزلت بأرض غير ذات مطر ورجل غير ذي كرم ففي البقاء عدم وفي الرحيل ندم.
وتذكرت ماحكي عن الشيخ إسماعيل الشناوي وهو يعتلي منبر المسجد ويمارس سلطوية رجل الدين قائلا 
يا اخوانا اللى خد فانوس المقابر يرجعه كده عيب
فيرد أحد الجالسين لسماع الخطبة 
الكلام دا يلطني ياشيخ سماعين
والله ماقصدى عليك ياعبدالغفار
لا والله أنت قاصد، حد قال لك
ياعم والله ما أعرف 
لا ياشيخ أنا اللى أخدت الفانوس أشوف بيه ماية الري وصلت لفين 
خلاص ياعم ابقى رجعه تانى وزوده لتر جاز وعنه أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له...ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
ولما اجتاح التعليم سلامون شرقا وغربا وأصبح أبناؤها أعلاما في كل مكان، أصابت البسطاء عدوى التحدث بالفصحى على اعتبار أنها لغة المثقفين فأضحى كل فلا ح بسيط يطعم حديثه بألفاظ على شاكلة ( حيث إن ..إذن، طبعن بالنون، ثم ينبغي وماشابه) ويسأل أحدهم أستاذا جامعيا. 
ألا يا دكتور عبدالهادي هي كلية القاداب دي تطلع فين؟؟
ويصر أحدهم على أن تكون لشيخ المسجد خطبة وله الخطبة التي تليها وإلا لن يدخل أحد المسجد في يوم الجمعة. 
بينما يضيف شيخ المسجد للدعاء المأثور عبارة ( ولا غشيما إلا هديته ) ويقصد بالغشيم شخصا بعينه كان قد لحقه هذا اللقب بين الناس تفكها 
وتستخدم بائعة البلح بلاغتها منادية بصوتها الرخيم قائلة:
عسلك مقني يازبدة يابلح
بل الميزان مني يا نايح
يامين يجيب الأناجر يا زبدة يا بلح
ياخد العسل مني يا نايح
فالبائعة هنا مارست سلطوية حلاوة الصوت، وحسن البيان لتجذب المشترين وهي تنادي ليلا في جو الريف الهادئ وكل أهل القرية في هدوء تام مستمتعين بحلاوة صوتها، بينما تنادي بائعة البرتقال قائلة :
ياقلل الشربات يا بلدي
ياترى اللي يعيش لك مين يا بلدى
بينما كنا ننتظر حالة الوفاة حتى نستمع إلى ( المعدداتية ) رائدة فن الغناء الباكي ذات الصوت الشجي، والعبارات الموجعة الموائمة لجلال الحدث، ولتلك حديث خاص.
وننتظر الأفراح لنستمع إلى شعر الكساوي المبهج وجمال إيقاعه، وننتظر الموالد لنستمع إلى سيدنا ملقيا سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كلها شعرا ( المولد السمنودي) الذى كان يحفظه عن ظهر قلب، ولسيدنا المرحوم الشيخ حسن الشناوي في أدب الفكاهة باب عظيم، إذ يوقفه أحد الفلاحين البسطاء عن النداء لفجر يوم من أيام رمضان حتى يتسنى له أن يتناول طعام السحور. 
ويحاول أحدهم استضافته قائلا: تعال ياسيدنا أفطرك. 
تعال .. إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء ولا شكورا 
بينما يوقفه آخر ويقول له يا سيدنا لقد رأيت رؤيا وأريدك أن تفسرها لي 
لقد رأيت أنى على ساقية عظيمة فيها عين بتطلع رز...وعين بتطلع شربة...وعين بتطلع لحمة..وعين بتطلع لبن ....فيرد سيدنا قائلا يا أخي وعين بتطلع معالق ......ابقى اتغطى كويس وأنت نايم .
ويتبرع أحدهم بعد إقامة الصلاة وهو في صف المأمومين قائلا :
استقيموا يرحمكم الله ..وسووا الصفوف فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة.
فيستدير له الشيخ الإمام قائلا: مش أنت يابغل يا ابن البغل اللي تقول كده أنا اللى أقول ..الله أكبر 
ويعتلى أحدهم المنبر ليلقى خطبة الجمعة وقد غاب الإمام فيدعو قائلا: اللهم انصر السلطان قنصوه الغوري وعساكره والناس يؤمنون من خلفه في صوت واحد ( آمين ).
ويدفع أحد مثقفيهم بالأجرة لفلاح بسيط ليصطحبه يوميا إلى دار السينما ليلا وينام نهارا. 
وبينما يتغنى الفلاحون بأجمل الأغاني في موسم الحصاد، ويجوب المداح القرية ويقف أمام كل بيت مادحا الحبيب محمد بأجمل عبارات المديح طلبا للتكسب 
ويقول أحدهم ممارسا سلطوية رجل اللغة: عجورة ( وعجورة اسم شخص حقيقي ) 
هو فيه حد اسمه عجورة ؟؟ دا عجورة دا ممنوع من الصرف. 
وتقوم معركة كبيرة وتدفع دية بسبب عبارة عجورة دا ممنوع من الصرف. 
وتقول زوجته : اشمعنا عجورة دونن عن خلق الله اللي يتمنع من الصرف؟
فيقول لها عمدة القرية: ياستي دى حاجة في الصرف أنت ماتعرفيهاش. 
كمان ما أعرفهاش؟؟؟ يالهوييييييي 
كل يمارس سلطويته كما عن له، وكلنا يمارس إقصاء الآخر انتصارا لذاته وإن لم يكن على حق لم ؟ وإلى متى ؟ لست أدري ..حتى في حكايات قريتى الجميلة التى تميز أهلها بخفة الظل حتى وهم في قمة ممارسة سلطويتهم .