رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«بقايا اليوم».. المجد في 4 أسابيع!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«الحقيقة الصعبة بالتأكيد هى أنه بالنسبة لأمثالك وأمثالى ليس أمامنا سوى خيار بسيط، هو أن نترك مصيرنا بالكلية فى أيدى هؤلاء السادة الكبار عند صرة هذا العالم، الكبار الذين يوظفون خدماتنا، ما جدوى أن نزعج أنفسنا بما كان ينبغى أن نفعل أو لا نفعل لكى نتحكم فى مسيرة حياتنا؟».
هذه الكلمات على لسان «ستيفنس» بطل رواية «بقايا اليوم»، من تأليف الكاتب البريطانى من أصل يابانى كازو إيشيجورو، تحكى كل شيء عن الرواية، وعن تقنية الكتابة عند إيشيجورو، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام ٢٠١٧.
«بقايا اليوم»، عملٌ عضوى متماسك، متكامل الأجزاء، كل مشهد وكل شخصية تضيف إلى الصورة الكلية وتبرزها، وأسلوب الكاتب المحكم يناسب موضوعه تمامـًا، كما هو مناسب لشخصية الراوى الذى يسافر بسهولة بين المراحل الزمنية المختلفة.
وفى تداخل وتقاطع بين الذاكرة الفردية والتاريخ الوطنى من خلال عقل رئيس خدم «ستيفنس»، نجده مقتنعـًا بأنه خدم الإنسانية، لا لشيء إلا لأنه سخَّر كل كفاءته وخبرته المهنية لخدمة رجل عظيم «لورد دارلنجتون».
وباستعراض تاريخه فى المهنة يكتشف «ستيفنس» ما يجعله يضع كل شيء موضع المساءلة: عظمة اللورد، وعلاقته بالآخرين، ومعنى حياته التى عاشها فى عزلة عن كل شيء باستثناء وظيفته، معنى الكرامة المهنية، الزمن المفقود الذى يحاول استعادته.
فى الرواية، نتابع حكاية رئيس خدم فى قصر «دارلنجتون هول» الذى كان يؤمه علية قوم المجتمع الإنجليزى وصفوة رجال السياسة حول العالم، وهو يحكى عن مخدومه «لورد دارلنجتون» ويحكى عن زملاء العمل وعلى رأسهم «مس كنتون»، تكتشف أنه عاش حياته من خلال من حوله، لم تكن له أى حياة خاصة، أفنى شبابه وكهولته فى خدمة اللورد، وكان يرى أن هذا هو دوره الحقيقي.
كان البطل يفلسف معنى الكرامة، باختصار على أنها القدرة على خدمة السادة بمنتهى الإتقان، وعدم الوقوع فى الأخطاء مطلقـًا، وعدم اهتزاز صورته أبدًا، بمعنى آخر يمكننا أن نقول إن البطل كان يخشى أن يخطئ حتى لا يوبخه أحدهم ويكتشف فجأة أنه «خادم»، فقام بفلسفة فكرة الكرامة فى قالب يناسب حاجته إلى الشعور بأهميته وقيمته الإنسانية.
تمكن الكاتب عن طريق شخصية خيالية بريطانية، يتكلم كلامـًا يبدو عاديـًا دون الكثير من الأحداث الصادمة، أن يجعل الشخصية تتماس مع القارئ اليوم، كما نجح فى أن يجعل «لورد دارلنجتون» الذى لم يكن الشخصية الرئيسية فى الرواية، محفزًا لك أن تفكر فى مبادئك الخاصة، نبله وقراراته التى كانت تهدف وقتها لتجنب الحرب وإقرار السلام ومحاولاته المستميتة للدفاع عن القيم الإنسانية وتجنب الحرب، واعترافه بالخطأ فى أواخر عمره.
التكتم هو أحد خيوط الكتابة التى لا يفلتها إيشيجورو.
هذا ما نلمسه فى قصة حب «ستيفنس» لمدبرة المنزل «مس كنتون»، هذا الحب الذى لم يعترف به أبدًا لنفسه حتى، الحب الذى كان يمكن أن ينقذه من بين براثن عقله عندما يموت اللورد ويواجه «ستيفنس» نفسه بعد مضى الوقت، عندما يكتشف فجأة أنه لم يكن مهمـًا بتلك الدرجة التى جعلته منهمكـًا فى دوره كرئيس خدم، قصة الحب الرقيقة جدًا التى لم تتبلور سوى فى ثلاثة مشاهد على الأكثر، والتى لم يعرها البطل الاهتمام الذى يليق بها وقتها، والذى جعله يجلس على الجسر باكيـًا فى آخر مشاهد الرواية.
«إيشيجورو» يكتب بأسلوب شديد الاقتصاد، لا يقدم التفاصيل الضرورية، بل إنه كثيرًا ما يقول شيئـًا، وهو يعنى شيئًا آخر، كتاباته خليط من الاستعارات المنفصلة والتلميحات والتشبيهات والتداخلات الغامضة بين الشخصيات، وهو كاتب مدهش فى تقديم شخصيات ثانوية تحيط بأبطاله، فتبرزهم عن طريق العلاقة التى تربطهم معـًا»، هكذا وصف الكاتب والمترجم طلعت الشايب الأديب كازو إيشيجورو، فى مقدمته لرواية «بقايا اليوم» التى ترجمها للعربية، والحائزة على جائزة مان بوكر لعام ١٩٨٩.
شخصية «ستيفنس» فى هذه الرواية تعكس أفكارًا وتأملات «إيشيجورو» الخاصة، وعدم وضوح الرؤية لديه، والتمادى فى السير فى الاتجاه الخطأ. شخصيته مرسومة بعناية فائقة تبرز مزايا وعيوب الطبيعة المتحفظة، فهو شخص رزين محترف يحاول أن يحافظ على النظام والانضباط ومستوى الخدمة الممتاز فى قصر مخدومه، هذه الجهود كلها تفيض على حياته الشخصية، وتطغى عليها مخلفة رجلًا غامضـًا أجوف.
ولكن، كيف كتب إيشيجورو هذه الرواية؟
يقول الروائي:
خطرت لى أنا و«لورنا» خطة، فقررت إلغاء جدول أعمالى لمدة أربعة أسابيع بلا هوادة، وأن أمضى بما أسميناه بطريقة غامضة «الحادثة»، وخلال فترة «الحادثة» لن أفعل شيئًا سوى الكتابة من التاسعة صباحـًا إلى العاشرة والنصف مساء من الاثنين إلى السبت، كنت أتوقف لمدة ساعة لتناول الغداء، وساعتين لتناول العشاء، كنت لا أقابل أحدًا، ناهيك عن الرد على البريد، ولا أقترب من الهاتف، ولا أستقبل أحدًا فى المنزل، أما «لورنا» فعلى الرغم من جدول أعمالها المزدحم فقد قامت خلال تلك الفترة بإنهاء حصتى من أعمال الطبخ والأعمال المنزلية، وبهذه الطريقة، كنا نأمل، أن أتمكن ليس فقط من إنهاء مزيد من الأعمال من الناحية الكمية، بل الوصول أيضًا إلى الحالة النفسية التى كان يصبح فيها عالمى الخيالى أكثر واقعية بالنسبة لى من الواقع الفعلي.
«كنت قد بلغت حينها الثانية والثلاثين من العمر، وكنا قد انتقلنا مؤخرًا إلى منزل فى «سيدينهام» جنوبى لندن، حيث كانت المرة الأولى فى حياتى التى أكرس فيها نفسى للدراسة، فقد كتبت أول روايتين لى على طاولة الطعام، التى كانت فى الواقع نوعًا من الخزانات الكبيرة مثبتة على رف مرتفع دون باب، ولكننى كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أمتلك مكانًا يمكننى فيه نشر أوراقى من حولى كما تمنيت، ولا أضطر إلى جمعها وإزالتها فى نهاية كل يوم، وقد كنت أعلق الرسوم البيانية والملاحظات فى كل مكان على الجدران المقشرة وأعود للكتابة.
«وقد كانت هذه فى الأساس هى الطريقة التى كتبت بها رواية «بقايا اليوم»، فطوال فترة «الحادثة»، كنت أكتب بشكل حر غير مبالٍ بالأسلوب، أو ما إذا كنت قد كتبت فى الظهيرة شيئًا يتناقض مع ما كنت قد وصلت إليه فى الصباح، كانت الأولوية مكرسة ببساطة إلى ترك الأفكار تطفو وتنمو، الجمل القبيحة والحوار البشع والمشاهد التى ذهبت أدراج الرياح أنا سمحت لها جميعًا بالبقاء وحرثت لها».
أربعة أسابيع، وعملٌ روائى محكم. 
درسٌ بليغ لمن شاء.