رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العدالة والقانون «6»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُعد مايكل ساندل من أهم المفكرين المعاصرين الذين تحدثوا عن معنى المساواة والحرية والعدالة التوزيعية، ومن أبرز الذين تناولوا طرح رولز عن العدالة والليبرالية السياسية التى يمثلها بالدراسة والنقد فى كتابه: «الليبرالية وحدود العدالة»، حيث ينطلق ساندل من النظر فى مدى صحة المقولة التى ترى أن المجتمع الليبرالى مجتمع يحرص على عدم إملاء أى طريقة معينة فى الحياة على أفراده، تاركًا لهم أكبر حرية ممكنة فى تحديد القيم التى يتبنونها والغايات التى يسعون إليها فى الحياة، وعلى الرغم من أن ساندل رأى أن ليبرالية رولز مدينة لكانط فى معظم آرائها الفلسفية، كما أنها جاءت معارضة للتصورات النفعية من حيث قولها بأسبقية الحق على الخير، إلا أنه رأى عيب هذه الليبرالية المعاصرة فى كونها لم تأخذ بعين الاعتبار مسألة الجماعة، بل اهتمت بتفرد الذات بشكل قبلي، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التى يفترض مسبقًا أنها منفردة بنفسها، لكن الذات -كما يراها ساندل- هى ذات مجسدة ضمن نسيج من العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وصف «ساندل» وصفًا دقيقًا -فى معرض حديثه لنقد الليبرالية- غياب المساواة والعدالة فى النظام الليبرالى الغربي، بالرغم من كل التطور الذى لحق به، فقد رأى أن ثمة جماعات تتعرض للظلم (كجماعة وليس كأفراد) وأن الطبقة المهيمنة فى النظام الجديد -لحظة التأسيس- تبقى مسيطرة فى جميع اللحظات التى تليها، ما دام النظام الليبرالى يقدم الحرية فى تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية، ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام.
أما «أمارتيا صن» فقد أقر -عند نقده لرولز- بأن مفاهيمه الأساسية ظلت تقدم له الكثير عند بحثه فى مشكلة العدالة، وبأن أعمال رولز تُعد تحولًا مهمًا فى الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، يقول «صن»: «لا يسعنى البدء بانتقاد رولز دون الإقرار أولًا بعظيم أثره فى فهمى الخاص للعدالة والفلسفة السياسية عمومًا، وعظيم الدين الذى أدين له به، فقد أشعل فى نفسى جذوة الاهتمام الفلسفى بموضوع العدالة».
لقد رأى «صن» أن نظرية العدالة تشتمل على متطلبات إعمال العقل فى تحليل مفهومى «العدل والظلم»، وقد حاول الذين كتبوا فى مفهوم العدالة، على مدى مئات السنين فى مختلف أرجاء العالم، تقديم أساس فكرى للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكرى الدقيق له، ومن ثم تطرقوا إلى تحليل المعنى الخاص بإعلاء قيمة العدل، ومن هنا، يعتقد «صن» أن الاشتغال على مستوى المؤسسات، فى التنظير للعدالة، الذى يطلق عليه «المقاربة المؤسسية الما-فوقية» المرتبطة بنمط تفكير العقد الاجتماعى السائد بتأثير من «رولز»، ومن تأثر بهم، كـ«روسو» و«كانط» (فى الفلسفة السياسية المعاصرة فيما يخص مفهوم العدالة)، يظل قاصرًا من ناحية عدم اهتمامه بالسلوك الفعلى للناس، بمعنى آخر، أن المؤسسية الما فوقية فى بحثها عن الكمال، تركز - فى المقام الأول- على الوصول إلى المؤسسات العادلة، ولا تهتم مباشرة بالمجتمعات الفعلية التى ستنبثق فى النهاية من تلك المؤسسات، إذ لا بد لطبيعة المجتمع الذى سينتج عن أى مجموعة معينة من المؤسسات أن تعتمد على سمات لا مؤسسية، كأنماط السلوك الفعلى للناس وتعاملاتهم الاجتماعية.
ولا شك أن القائلين بمذهب «المؤسسية الما فوقية» الباحثين عن مؤسسات عادلة تمامًا، فيما يرى «صن»، قد قدموا تحليلات مضيئة للواجبات الأخلاقية والسياسية التى ينطوى عليها السلوك المناسب اجتماعيًا، مثل: «كانط»، و«رولز». فكلاهما شارك فى البحث المؤسسى الما فوقي، لكنهما قدما تحليلات بعيدة الأثر لمتطلبات المعايير السلوكية، وبالرغم من أنهما ركزا على الخيارات المؤسسية، إلا أنهما أغفلا السلوك الفعلى للناس المرتبط بما هو واقع، أى ما يطلق عليه «المقاربة الما تحتية» التى تركز على الواقع الفعلى للمجتمعات.