كُنت طالبا ملتحقا بالمعهد الديني بقرية كوم النور إحدى القرى التابعة لمركز ميت غمر محافظة الدقهلية، ومع بداية كل عام دراسي كان والدي السيد "محمود" وأمي الست "نبيلة"، ينشغلان بترتيبات وتجهيزات دخول المدرسة، ما بين شنط وأدوات مدرسية وكراسات وكشاكيل وكتب ودفاتر وأقلام – لوازم الدراسة والمذاكرة -، والملابس المدرسية الجديدة ليتزين الأولاد بارتدائها في اليوم الدراسي الأول.
كان الأصل في منزلنا العيش في حالة من الاستقرار التام طوال العام، تنظمها وتحكم علاقاتها مجموعة من القواعد الضمنية التي فرضها الأبوان على الأبناء" محمد وديانا وسماح"، باستثناء الفترة السابقة لدخول المدارس،حيث تتعرض الأسرة لأخطار المصاريف والرسوم المدرسية ومصروف الجيب اليومي والوجبة المدرسية الصباحية.
فيصبح البيت في حالة طوارئ تشبه الحالة التي تفرضها البلاد لمواجهة خطر أو هجوم، فكان الوالدان يفرضان نظاما استثنائيا داخل الأسرة، وذلك بتدابير مستعجلة وطرق غير عادية، فالأب يبحث عن كيفية توفير المستلزمات المدرسية ، وفائض ميزانية الأسرة ، ويجهز كل مٌعداته لمواجهة المصاريف الباهضة التي تفرضها القوة الجبرية لدخول المدارس ، ويين الحين والآخر يراجع نقود دخله لمواجهة الغلاء الذي كان غالبا يزداد بمقدار قروش معدودة.
ثم يجلس مع والدتي للتشاور حول ما يجب ألا تتخطاه في الصرف علي لوازم المدرسة ، حتي يتوفر مبلغا من المال لاستكمال مصروفات الحياة اليومية من مأكل ومشرب ورعاية طبية وصحية ...إلخ .
وفي اليوم الذي يسبق الدراسة تجوب أمي الأسواق والمحلات بحثا عن الملابس والشنطة المدرسية ، والأولاد كعب داير " بِيتْأمّرو ويِتْألطوا " في انتقاء أفضل الملابس ، ودائما ما تكون بثمن باهظ يفوق تحمل الأسرة ، إلا أن الأم ترضخ لمطالبنا حتي تُدخل الفرحة علي قلوبنا.
بعدها نعود إلى البيت مفعمين بالحيوية وأكثر إقبالا على الحياة، لانتصارنا في الحصول علي ملابس تشبع رغبات" الأَنْتَكة والجَنْتَلة "، وألهو أنا وأخواتي علي سطح السرير المنجد بالقطن حتي تشتكي" المُلّة " من دَبيبَنا و شقاوتنا وتَنْطِيطنا وشَقْلباظاتنا".
في ذلك الوقت كانت الحياة بسيطة للغاية، ولم تظهر مُغريات الآن، كان أغلب أفراد المجتمع ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة ، والتقارب بين الطبقتين كان لا يصنح حاقدا أو جاحدا .
تحملت الست " نبيلة " والسيد " محمود " أعباء وضغوطا كبيرة تنأي الجبال علي حملها ، المرتب علي"قَدْ الإيد" وربما الأصابع فقط ، واحتياجات الأسرة في حاجة إلى مرتب بطول الجسد ، إلا أن القناعة كانت منهجا وعنوانا ، والصبر كان مفتاح الفرج ، وها نحن الأبناء قد كبرنا ، وبدأنا نشرب من نفس الكأس ، لتتبدل الكراسي الأسرية ، ويصبح الأبناء آباء والآباء أجدادا .
فأصبحت أبا الآن ، ومحمود ابني التحق هذا العام ب "كي جي 1" ، واستدعيت وأنا أذهب به إلى مدرسته ، ذكريات كان لأبي معنا فيها حكاوي، أريد لوزير التربية والتعليم أن يسمعها ويحللها ويفكر فيها جيدا ، وكذلك الحكومة ووزراؤها، كونها رسائل ذهبية ربما تحل ألغازا كثيرة .
فقد كانت أجواء رحلته الدراسية ذات مخزى ومعني وتفاخر يحكيها لأبنائه ، فالوالد كانت أمه مع بداية العام الدراسي"بِتْوصّي"عليه معلميه ، وكانت التوصية أنذاك لها مفهوم مختلف عما نحن فيه الأن ، حيث كانت تعني أن يضربه معلمه " بالفَلًكَة " وما أدراك ما الفلكة إذا أخطأ أو لم يتجاوب مع دروسه ، وكأنه تصريحا ضمنيا بأن الطالب ابنك افعل فيه ما تشاء ، المهم "الواد يبقي شاطر ومتفوق".
والسؤال إذا اشتكي حاليا ولي أمر للوزير من مدرس ضرب إبنه ؟ مع العلم أن الطالب تطاول علي أستاذه ، الإجابة المدرس"هيتْمَد"علي قدميه بفَلًكة القانون !
فكان الغياب اليومي نادراً! " والحكي للوالد " ، فيقول كنا نعيش بمدارسنا مع معلمينا حياة جميلة طبيعية ، كان المعلم له وقاره وإحترامه ويسبق إسمه لقب " أفندي "، فيتحدث عن معلميه بالأسماء والمواقف ويتفاخر بهم وكأنهم أبطالا من قصص حياته ، رغم مرور عقودٍ من الزمن، لدرجة أنني أحفظ أسماء معلمي والدي من كثرة حديثه عنهم .
والسؤال حاليا ليس كم نسبة الغياب اليومي في المدارس ؟ بل كم نسبة الحضور ؟
والسؤال الثاني ليس كم واحد فاكر أستاذه ويحترمه ويوقره ؟ بل كم أستاذ قمت بإهانته وتوبيخه ؟
كان أبي يلفت نظرنا كثيرا أن جيله وقف في طابور الصباح بنظام ، وأنشد السلام الوطني بحماس مستوعبا قيمته وكلماته ، وأنهم لم ينهاروا نفسيا من عصي المعلم ، بل ان العصي لمن عصي ، وكان يري في ذلك حقا شرعيا من الضرورة ، لكي ينصلح حال الطالب الفاشل، وترتفع كفاءة المتميزين ، وتحفيز الخاملين .
والسؤال حاليا ليس كم طالب يردد النشيد الوطني ؟ ولكن كم طالب فعلا حافظ نشيدنا الوطني وفاهم كلماته ويردده بحماس؟
ثم يعطي رسائل سريعة منها نحن جيل لم ندخل مدارسنا بهواتفنا النقالة، ولم نشكوا من كثافة المناهج الدراسية ، ولا من حجم الحقائب المدرسية، ولا من كثرة الواجبات المنزلية ، نحن جيل لم يذاكر لنا والدينا دروسنا ، ولم يكتبوا لنا واجباتنا المدرسية، وكنا ننجح بلا دروس خصوصية ، وبلا وعود وحوافز من الأهل للتفوق والنجاح ، نحن الجيل الذي وضع كتبه في شنطه الدبلان أو الدمور على الكتف.
أرى في رسائل والدي أن المدرسة قيمة والمعلم قامة والطالب محور العملية التعليمية، وهي ما تبحث عنه وزارة التربية والتعليم حاليا والحكومة بأكملها.