تواصل «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته
ونعود إلى باحثة البادية تلك التى كرست جهدها للدفاع عن حقوق المرأة وحريتها وإنما وفق موقفها الخاص ورؤيتها الطبقية الخاصة. فالفقيرات من وجهة نظرها بلا خلق ولا أدب ولا احتشام، وسيدات البرجوازية الناهضة متفرنجات لا هم لهن إلا اللهو والمسخرة وطبقة الأعيان هى الأفضل أدبا والأكثر احتشاما. أما ذوقها هى فملابسها تليق بزوجة شيخ العرب.. ونساء البادية، فعلى رأسها غطاء نساء البادية الفيومية وملابسها ملابسهن.. وهى تتحدث فى مقالها الخامس فى موضوع صعب وشائك ولكنها تكتب وبصراحة شديدة القسوة تحت عنوان «تربية البنات - فى البيت وفى المدرسة» تقرأ كتابتها تعرف جيدا الحياة الاجتماعية والأخلاقية للمرأة، وكيف تعيش وكيف تفكر، كلنا يعلم ما تعودنا سماعه من أمهاتنا عندما كنا نواصل اللعب المشاغب ونحن أطفال حينئذ كانت والدتنا تقول «خذوها إلى المدرسة» فترسم المدرسة فى مخيلتنا عفريتا يخيف منظره فقد كنا نعتبر أن هذا القول هو أقسى عقوبة، وترى ملك حفنى ناصف أن المشكلة الأساسية تأتى من الأسرة وخاصة الأم. ونقرأ كيف «تبذل معلمات المدارس جهد الطاقة فى تثقيف عقول التلميذات وتعويدهن الفضائل ولكن تلك الدروس إذا لم تدعمها الممارسة والمشاهدة لا تلبث أن تزول، فترى إحدى المعلمات تنصح لفتياتها بألا يرتدين فى المدرسة الأثواب المزركشة أو الرقيقة أو الشفافة فتأتمر الفتاة بأمرها، وما هو إلا يوم حتى ترى والدتها وقد أحضرت لها من تلك الثياب ما هو أقلها حشمة وأكثرها بهرجة وإذا عارضت الفتاة وقالت لأمها لقد نهينا عن لبس تلك الثياب، أجابتها أمها لا تكترثى بكلام المدرسة فهو موجه للفقيرات فقط وليس لبنات الأغنياء مثيلاتك».
وتعلق ملك حفنى ناصف «وهكذا يضيع النصح هباء وتتشجع الفتاة على العصيان وعدم الاكتراث. كذلك فإن المدرسة تدرب التلميذات على النظام وبيوتنا بسبب الجهل لا نظام فيها، وخلاصة الأمر أن ما تبرمه المدرسة لنفع التلميذات يجرى نقضه فى البيت ولا سيما فى مسألة الأخلاق». وأسطع برهان على أن البيت يفسد ما تصلحه المدرسة هو الفرق الواضح بين تلميذات الأقسام الداخلية والخارجية، فإن بنات الداخلية أكثر نظاما وترتيبا وأغلبهن أشد تمسكا بالفضيلة لأنهن ينشأن على البساطة الحشمة وقد رسخ فى أذهانهن كل ذلك لأنهن يمارسنه بالفعل ولا يجدن ما يفسد ذلك الدرس المفيد (ص١٩).
وتمضى باحثة البادية فى حديث ما تدركه أكثر من غيرها عن الأوضاع الداخلية فى المنازل ونقرأ «المدرسة مثلا تأمر التلميذات بالنظافة والهندام والترتيب، لكن البيت لا يهتم بذلك، فإذا غسلت الفتاة شعرها يوما تنتظر بعدها أسبوعا بغير تمشيط حتى تأتى «الماشطة» وتمشطه لها فى الأسبوع التالى ويظل رأسها بين الأسبوعين معقدا قذرا فترجعها المدرسة إلى البيت مرة أخرى وتكون النتيجة تأخر الفتاة عن تلقى الدروس وربما استشاطت أمها غضبا من تكرار رجوعها فتخرجها من المدرسة. بينما لو أن الأم مشطت شعر ابنتها كل يوم لما استغرق ذلك أكثر من ثلاث دقائق ولكنه الجهل والكسل» (ص١٩). وتمضى ملك حفنى ناصف فى حديث من تعرف تصرفات المرأة المصرية فتقول «حادثتنى ناظرة مدرسة للبنات فى شأن التلميذات بالأقسام الخارجية اللائى يعدن كل يوم إلى البيت بسبب قذارتهن قائلة: «إنى أعجب لأمهاتهن كيف يرضين لأنفسهن أن تشتمهن مدرستهن كل يوم ولا يخجلن.. وتمضى ملك على لسان الناظرة أليس إرجاع البنات إلى أمهات بسبب الوساخة يعادل قولنا لها إنك سيدة قذرة ولا تصلحين لإدارة بيتك وأكبر دليل على ذلك إهمالك بنتك وهى فلذة كبدك وأعز بالطبع من المنزل وأثاثه ورياشه، ولو رجعت تلميذة إنجليزية إلى منزلها بسبب القذارة لفكرت أمها فى الانتحار بسبب أن ابنتها قذرة وفوق ذلك فإن الفتاة ما إن تلوح عليها ملامح النضج الأنثوى «فإن الأم تظل تلح على أبيها وعلى مسمع من البنت أن البنت كبرت ويجب أن تترك المدرسة لتتزوج، وأن فلانا قد أرسل والدته أوأخته لتخطبها فلا تلبث الفتاة أن تلتفت إلى مسألة الزواج وتهمل المدرسة فوالدتها تغريها بذلك وتبدى اهتماما كبيرا به» (ص٢١).
ثم تتابع ملك حفنى ناصف تصرفات الأم التى لا يمكن لأحد أن يلاحظها إلا باحثة كباحثة البادية التى تعرف أسرار وكوامن تفكير المرأة. فالأم تصطنع أسباب عدم انتظام ابنتها فى الدراسة كى تسرع بتزويجها وتقول «فإذا أمطرت ولو رذاذا منعتها عن المدرسة، وإذا اشتد البرد منعتها، وإذا زادت الحرارة قليلا صدتها، وإذا ذهبت لعرس إحدى جاراتها أخرتها يومين أو ثلاثة، والفتاة مظلومة والمدرسة مظلومة أكثر منها.. ثم تكمل باحثة البادية رؤيتها قائلة «ولا تكتمل تربية الفتاة إلا بأن تصير المدارس مسئولة عنها تماما كالمدارس الداخلية أو كانت أمهاتهن متعلمات يساعدن المدرسة على القيام بمهامها ولعل هذا يظهر فى الجيل القادم من بناتنا بإذن الله» (ص٢١).
.. وتمضى امرأة تعرف دخائل الحياة الاجتماعية للنساء وما يفعلهن فى بيوتهن فنكتب ما لا يستطيع كاتب أن يكتبه. ونواصل.