لكل صاحب مُعتَقَد ثوابت، لا يَقبل الطَعن فيها، لكن -منطقيًا وبِداءَةً- لكى نُسميها ثوابت، فلا بد لها أن تَثبُت أمام الطَعن فيها، وتَذُود عن نفسها بدلائلٍ عِلمية وبراهين منطقية، فإن كان المُعتَقَد هَشًا (لا يَصمُد أمام الطَعن والتَشكيك)، فلا يَصح أن نعده من الثوابت، ولا حاجة لنا للذَود عنه، فالثوابت -فى رأيى- تَذُود عن نفسها.
والغرض من كتابة هذه السطور -عزيزى القارئ- ليس التشكيك فى مسائل هى عند السواد الأعظم من الشعب القبطى بمثابة الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بقدر ماهى دَعوة لإعمال العقل، واستخدام المنطق، وترجيح كفة البحث العلمى، على الاعتقاد بأساطير وروايات لا تخدم الإيمان القويم بقدر ما تُعطى ذريعة للمُشككين للتحايل على البُسطاء من المؤمنين.
وهى أيضًا دَعوة صريحة لمُراجعة النُصوص التاريخية التى تُستخدم فى الكثير من الكُتب الكنسية، كالدفنار والسنكسار وميامر القديسين، وبعض الكتابات الأخرى، والتى تحتاج بدون أدنى شَك لتحقيق وتدقيق، وهو أمر يُمكن إسناده لمُختصين، ومن غير المُستساغ أن تتأخر الكنيسة عن اتخاذ ما يلزم من خطوات حياله.
فتاريخنا الكنسى الذى نتناقله جيلًا بعد جيل، ويَدرُسه أبناؤنا فى مناهج التربية الكنسية وفصول إعداد الخدام، ويتم تجسيده فى وسائل الميديا بصورٍ شتى، من الأهمية بحيث يستلزم دراسته وبحثه وإعادة كتابته بشكل غير تقليدى، مع إخضاعه للتفسير والتحليل والنقد، فسلامة التعليم الكنسى لا تقتصر على حفظ العقيدة والطَقس، بل تمتد لتشمل تاريخ كنيستنا الذى يجب أن نُسلمه للأجيال اللاحقة خاليًا من المُبالغات، والأمر برمته مرهون بإرادة الكنيسة ومجمعها المقدس.
ولقد أرسى مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث، قواعد النقد الشُجاع والتدقيق فى دراسة حوادث التاريخ الكنسى، حينما قال فى إحدى مُحاضراته لطلبة معهد الدراسات القبطية عام ١٩٩٨: «ينبغى كطلاب للتاريخ أن تَدرسوا تحقيق التاريخ، يعنى كل واقعة تاريخية لا بد أن تتحققوا منها تمامًا، ولذلك أنصحكم، فى غير ما كُتب بالكتاب المقدس لا تعتمدوا على مرجع واحد بقدر الإمكان.. النصيحة الثانية، أنكم فيما تَدرسون التاريخ أن تنقذوه من الفلكلور والخرافات أيًا كان مصدرها.. النصيحة الثالثة، أن ترجعوا إلى المراجع الأصلية».
وقد بذلت اللجنة المجمعية للطقوس جُهدًا مشكورًا فى مُراجعة كتاب السنكسار وإصداره مُنقَحًا فى عام ٢٠١٢، لكن لا تزال الحاجة مُلحة لبَذل جُهد أكبر فى مُراجعته وتنقيحه بواسطة مُختصين لتفادى الخَلط الواضح بين الشخصيات والتحقق من التواريخ.
فى سنكسار ٢٠١٢ -مثلًا- أضافت اللجنة المجمعية سيرة الشهيدة يوستينا والشهيد كبريانوس، وتُعيد لهما الكنيسة فى ٢١ توت، لكن السيرة تَضَمَنَت خَلطًا واضحًا بين كبريانوس الساحر الذى آمن بفضل تلك القديسة، واستشهد معها فى أنطاكيا عام ٣٠٤م فى عهد ديقلديانوس، وكبريانوس أسقف قرطاجنة الشهير الذى استشهد عام ٢٥٨م فى عهد فالريان!، وسنكسار ١ برمهات يخلِط بين شخصين باسم المكين جرجس ابن العميد، أحدهما مؤرخ من أصل سريانى عاش فى القرن ١٣ والآخر راهب قبطى عاش فى القرن ١٤، وسنكسار ٣ برمهات يذكر نياحة البابا قسما عام ٩٣٢م فى عهد الفاطميين، ولم يكن للفاطميين وجود بمصر قبل فتحهم لها عام ٩٦٩م، وسنكسار ١٩ بؤونة يُشير إلى استشهاد مارجرجس المزاحم (عام ٩٥٩م - فى زمن البابا فيلوثاؤس٦٣ - فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله) وتلك العناصر الثلاثة (التاريخ والبطريرك والخليفة) لا يمكن ربطها معًا بالجُملة!.. هذه مجرد أمثلة.
ولعلك تتفق معى -عزيزى القارئ- فى أن إيماننا المسيحى لا يُمكن أن يرتكز على صحة رواية تاريخية من عدمه، مهما يكن لتلك الرواية من أهمية، ولعلنا نتفق أيضًا فى أن المؤرخين ليسوا أنبياء، وليسوا معصومين من الخطأ، وأن ما دَوَنوه فى كتبهم ومخطوطاتهم من وقائعٍ وأحداث، لا يصح أن نضعه فى منزلة الأسفار المقدسة، فحتى هذه الأسفار المقدسة أُخضِعَت للبحث والدراسة والفَرز والمُراجعة لاستبيان قانونيتها، ولم تُفلِح كل محاولات التشكيك على مر العصور فى النَيل من صِحتها، وأضحى كتابنا المقدس كصخرة ثابتة تتحطم عليها كل سِهام المُشككين، وذلك كفيل بنزع هالة القدسية عن كتب التراث والتاريخ لتخضع بدورها للفحص والمراجعة والتصحيح والتنقيح.