يمتلك الشعر قدرة روحانية خاصة فى تحريك الوجدان واستمالة القلوب، ويرجع ذلك إلى اقترانه بالموسيقى، المتمثلة فى الوزن والقافية، تلك الموسيقى التى تتولد عن تواتر النغمات، وتتابع المقاطع فى جرْس موسيقى جذّاب، تنشرح له النفوس، وتتلقاه الأسماع فى انسيابية وطرب.
إن الموسيقى عنصر جوهرى فى تشكيل النص الشعرى، فهى تُكْمِل بقية العناصر التى يتشكل منها؛ ومن ثم كانت ذات صلة وثيقة بالصورة الشعرية، وتقنيات الشكل، ولغة النص الشعرى بوجه عام، بل يمكن القول إن الشعر عبارة عن خيال وموسيقى؛ حيث لا يستوى الشعر شعرًا، إلا بالخيال وبوزن ذى إيقاع متناسب، ليكون أسرع وأكثر تأثيرًا فى النفس، فالنفس تميل إلى كل ما هو متَّزن ومنتظم من التراكيب.
إن تتابع المقاطع (التفعيلات) على نحو محدد، يُهيئ أذن المتلقى لاستقبال أسلوب إيقاعى من هذا النمط دون غيره، ويأتى الوزن فيضيف إلى مختلف التفعيلات التى يتألف منها الإيقاع نسقًا زمنيًّا محددًا، فليس الوزن فى الكلمات ذاتها، بقدر ما يكون فى الاستجابة التى يخلقها لدى الشاعر والمتلقى، فنحس وكأن مشاعرنا قد انتظمت على نحو خاص.
فحينما أطالع مثلًا قصيدة (الحزن) فى ديوان صلاح عبدالصبور (الناس فى بلادى)، والتى يقول فيها:
يا صاحبى إنى حزين
طلع الصباح فما ابتسمتُ.. ولم يُنرْ وجهى الصباح
وأتى المساءُ.. فى غرفتى دَلَفَ المساء
والحزنُ يولدُ فى المساء.. لأنه حزنٌ ضرير
أقول: عندما أطالع هذه القصيدة، لا أستطيع أن أتفاعل تفاعلًا تامًّا مع التجربة الوجدانية للشاعر، رغم عمق المعنى؛ وذلك لعدم انتظام الوزن والقافية، وهو الأمر الذى جعل القصيدة من وجهة نظرى أقرب للنثر منها للشعر.
ولكن عندما أقرأ هذه الأبيات لإبراهيم ناجى فى قصيدته (الأطلال):
ألمحُ الدنيا بِعينىَّ سَئِمٍ
وأرى حولىَ أشباحَ المللْ
راقصاتٍ فوقَ أشلاءِ الهوى
مُعْولاتٍ فوق أجداثِ الأملْ
ففى هذين البيتين أستطيع أن أعيش مع تجربة الشاعر الوجدانية، الذى اصطدم بصعوبات الحياة، فعاد محطَّمًا يائسًا، مصابًا بالملل وخيبة الأمل، وذلك لأن الإيقاع والوزن إشارة إلى عمق الانفعال لدى الشاعر، ومنه ينتقل هذا الانفعال إلى نفس المتلقى وقلبه، وكأن الشاعر يقول: إن ألمى وحزنى من القوة بحيث لا أستطيع أن أعبر عنهما باللغة العادية.
ومن ثم؛ فإن حركات التجديد التى تستهدف التقليل من الموسيقى الشعرية، والوحدة النغمية القائمة على التساوى فى الوزن والقافية غير مقبولة؛ فقد ضاق إحساسهم بنظام الشطرين، الذى يتسم بالوحدة والتساوى والاستقامة؛ لذلك سعوا إلى التحرر من هندسة الإطار العمودى الصارم، وفى هذا إغفال للجانب المضىء فى تراثنا الشعرى، فهذا النظام لم يمنع الشاعر القديم من التعبير عن نفسه وعصره، وكثيرًا ما اقترن هذا التعبير بصدق وجدانى وفنى نفتقده فى كثير من التجارب المعاصرة.
إن أنصار التجديد يقولون: إن هذا التقديس للأوزان الشعرية لا مبرر له، فهى قابلة للتطوير والتجديد، وقولهم هذا فى ظنى نابع عن عجز، فمنهم من يعجز عن كتابة بيت واحد موزون مقفى؛ ولهذا فالأوزان الشعرية لا تستحق فقط هذا التقديس، بل تستحق أكثر منه؛ لأنها تميّز بين الشاعر الذى يمتلك ناصية اللغة امتلاكًا فطريًّا يُعينه على التعبير عن مكنونات نفسه فى قالب شعرى رصين، وفى سليقة جُبِلتْ على النظم الصحيح، وبين غيره ممن يسمون أنفسهم بهذا الاسم.
ولا يصح أن نقلد شعراء الغرب فى التحرر من الوزن والقافية؛ لأن ما ينطبق على لغاتهم وأشعارهم لا ينطبق على لغتنا العربية؛ لشاعرية هذه اللغة من ناحية، ولرهافة أذن وحس ناطقيها من ناحية أخرى، وهذا ما أدركه الخليل بن أحمد؛ حيث كان ذا إحساس بالإيقاع أكثر من هؤلاء المجددين، فتتابع الحركة والسكون على نسب محددة هو الذى يوضح الإيقاع، وليس مجرد التتابع للمقاطع المختلفة الكم.