تواصل «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته
إذ نواصل رحلتنا مع باحثة البادية، أود أن أصارح القارئ بأننى لم أقصد فقط تقديم كتاب نادر، لباحثة نادرة المثال، وإنما قصدت أيضا أن أقدم صورة واضحة تماما عن حقيقة التعقيدات التى عاشتها مصر ذلك الزمان، إذ واجهت مع أعيانها الطموح إلى التجديد وتحرير المرأة، ولكن من وجهة نظر أعيان هذا الزمان الذين ينادون بحرية وديمقراطية مقيدة تماما بحدود وضعهم الاجتماعى ورؤيتهم لأسلوب التعامل معه. وهى رؤية طبقية تبدو أحيانا مقززة عندما تتحدث باحثة البادية عن الفقراء الذين يجعلون من فقرهم باعثا على العمل بكل السبل لجلب ما يسدون به الرمق، ثم تصفهم بأنهم شر على الآداب فى كل أمة حتى فى الإفرنج» (ص٩) كما أنهم يرفضون الفئة البرجوازية الناهضة التى تسميها باحثة البادية «طبقة الغنيات اللائى يطلقن العنان لأنفسهن فى الملاهى والملاذ، وهذه مفسدة فى الغالب، خاصة إذا اقترنت بالفراغ. فعندهن من الخدم ما يقوم بشئون بيوتهن وأولادهن فيتعودن على عيش الكسل والراحة». فلا يتبقى للمديح إلا الأعيان الذين سمّتهم باحثة البادية بطبقة الوسط، التى تقول إن نساءها هن الأصح أخلاقا. وهكذا؛ فإننا إذ نتعامل مع كتابات باحثة البادية نضع فى وضعها كزوجة لشيخ العرب ووضعه الثقافى والاجتماعي. ووضعها كابنة لحفنى بك ناصف، وفوق هذا وذاك نزوعها الطبقي. وهى بالأساس جزء من كتيبة الأعيان الذين أسسوا حزب «الأمة»، وأصدروا «الجريدة»، وهم ومفكروهم (أحمد لطفى السيد- محمد حسين هيكل- على ومصطفى عبدالرازق)، والذين تحالفوا خلال ثورة ١٩١٩ مع عبدالخالق ثروت وعدلى يكن. وبرغم نزعتهم الليبرالية التى تبدت فى مواقف عدة، منها مساندة طه حسين (فى واقعة كتاب فى الشعر الجاهلي)، وعلى عبدالرازق (فى واقعة كتابه الإسلام وأصول الحكم) ومواقف أخرى، إلا أنهم كانوا ينتمون إلى فئة الأعيان بخصوصيتها يتحدثون عن الليبرالية والحرية وحق التعبير، ويرتمون فى الوقت نفسه فى أحضان القصر والسلطان، (حتى سمّاهم سعد زغلول جماعة عبيد السلطان)، وطبعا كانوا يقيسون نزعتهم الوطنية بمقياس عدم التصادم مع الاحتلال، وعدم التعجل بالدعوة للتحرر منه. وهم ذاتهم الذين سرعان ما تراجعوا عن ليبراليتهم فور هجوم القوى الرجعية عليهم، ونعود إلى ملك حفنى ناصف لنستمع إلى نقدها للأم المصرية؛ فتقول: «ومما يؤسف له أن القوم عندنا لا يفرقون بين الصالح وغير الصالح؛ فإذا أدخلوا ابنة لهم فى مدرسة للحكومة وأمرتها ناظرة المدرسة أن تلبس جلبابا مغطى الصدر والكمين مثلا، أو أن تخلع حليها وقت الدرس عدوا ذلك إساءة لابنتهم المدللة ومنعوها من المدرسة»، وهكذا نرى أن باحثة البادية ظلت على الدوام رغم إصرارها على تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها متعلقة بالزى الذى اعتادت عليه هى كزوجة لشيخ العرب عبدالستار الباسل رئيس قبيلة الرماح الليبية بالفيوم وشقيق حمد باشا الباسل. فهى بسبب هذه العلاقة الزوجية ومعيشتها فى بادية الفيوم التزمت بهذا الزى «جلباب مغطى الصدر والكمين»، وهذا حقها لكنها للأسف اعتبرته الزى المفضل والواجب الالتزام به فى هذا الزمان. ونواصل معا.. معارك باحثة البادية الداعية إلى تحرير المرأة، ولكن فى هذه الحدود.. دون غيرها.
ويمكن القول إن أول من تراجع عن النضال الليبرالى والعقلانى هو د. محمد حسين هيكل، كان أكثر من تمادى فى زمن المد الليبرالى فى الدفاع عن العقل والعلم والانسياق نحو الحضارة الغربية، إلا أنه وفى عام ١٩٣٢ أصدر ملحقا لمجلة «السياسى»، مكتسيًا بطابع إسلامى صرف، ومطالبا «بحضارة يمتزج فيها العلم والإيمان فيرتوى منها العقل والنفس جميعا، وتجد فيها الروح الإنسانية غذاء يجمع لها بين الرخاء والسعادة، وبين النعمة والطمأنينة». وفى كتابه الذى مثل تحولا صارخا «منزل الوحي» يقول: «لقد خيل إلى زمنا، كما لا يزال يخيل إلى أصحابى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكننى أصبحت أخالفهم الرأى فى أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما فى الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحى غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته. ولا مفر إذن من أن نلتمس فى تاريخنا وفى ثقافتنا وفى أعماق قلوبنا وفى أطوار ماضينا هذه الحياة الروحية، ولقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتى ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية، لكننى أدركت فيما بعد أننى أضع البذر فى غير منبته؛ فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، ثم رأيت تاريخنا الإسلامى هو وحده البذر الذى ينبت ويثمر» (د. محمد حسين هيكل- منزل الوحي- ص٢٦ من المقدمة)
ويعلق د. جابر الأنصاري على هذا الموقف قائلا: «إن هيكل بهذه التوفيقية الفكرية يعبر عن تيار محمد عبده، محاولا أن يبعثه بعد أن تصدع بسبب الصراع بين التيار النصوصى المحافظ للشيخ رشيد رضا، والتيار العقلانى لطه حسين وعلى عبدالرازق قبل أن يتغيرا هما أيضا» (د. محمد جابر الأنصاري- تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربي- ص٦٧). لكن ومهما كانت تقلبات قادة هذا التيار؛ فإن باحثة البادية ظلت رغم تحفظها وتباعدها عن الفرنجة وإصرارها ليبرالية أعيان ريفيين ظلت ثابتة على موقفها، وواضح أن السبب هو رحيلها المبكر فى عام ١٩١٨؛ فقد رحلت وقادتها الليبراليون فى قمة ليبراليتهم. ونتواصل معها.