رغم انتشار الكنيسة الأرثوذكسية وتجذرها فى ربوع مصر على مدى ألفى عام، رحلة كاروز الديار المصرية «مار مرقس الرسول» ونشر الإيمان المسيحي، تمددت الكنيسة داخليًا وخارجيًا شرق وغرب شمال وجنوب بين البلدان والدول لم تتوقف عن حدود، وعرفها الجميع بأنها باكورة رهبانيات العالم ولقبت بـ«مصر أم الرهبنة».
ووسط توسعات الكنيسة حاليًا لإنشاء الأديرة والكنائس بالبلدان الغربية والعربية لتحمل اسم الكنيسة القبطية، وتصل أعداد الأديرة الداخلية قرابة 30 ديرًا للرهبان والراهبات، بالإضافة إلى الأديرة بدول العالم، يئن من ركام الصخور والرمال تراث الرهبان الأوائل والقدماء، ينتظر الاكتشاف واستعادته للحياة مجددا.
«البوابة» تبحث فى التاريخ وتسعى لاكتشاف تاريخ عطر لمتعبدى الصحارى فى ربوع مصر وخارجها، من كنائس ومنشوبيات وقلالى وغيرها مما دفنها ركام الزمن ولم تطأها أقدام الزائرين، وحال استكشافها ستكون مصدرًا فياضا للدخل القومي، وإضافة لأمجاد تاريخ مصر العامر بالحضارات.
كتب - ريمون ناجى
بعد هجمات البربر.. ونزوح الرهبان
«منشوبيات».. تراث
على وشك الضياع
يقول الأنبا مارتيروس، أسقف عام كنائس شرق السكة الحديد، رئيس لجنة المصنفات الفنية المسيحية بالمجمع المقدس، فى كتابه «تاريخ دير الأنبا يحنس كاما»، وبحث آخر بعنوان «منشوبيات فى دير السريان»، أن أسباب اندثار أديرة عديدة هى الغارات المتكررة من البربر وبدو الصحراء، مثلما شهدته الكنائس وأديرة الصحارى فى القرن الخامس الميلادى من ثلاث هجمات متكررة أعوام «٤٠٧ و٤٣٤ و٤٤٤» ميلاديًا.
ويضيف الأنبا مارتيروس، أن الهجمات تكررت فى القرن السادس الميلادى عام ٥٧٠ ميلادية، وأيضا مرة أخرى فى القرن التاسع الميلادى ٨١٩ ميلادية، و٨٦٦ ميلادية، وحتى القرن الحادى عشر شهدت هجمات على الأديرة فى عام ١٠٦٩ ميلادية.
وأرجع أسباب اندثار وفقر الحياة الرهبانية بعدد من الأديرة للغارات إلى جانب انتشار وباء الطاعون بالبلاد والمجاعات، خاصة بين القرنين ١١ و١٤ ميلادية، بالإضافة إلى ندرة المساعدات للأديرة نظرًا لسوء الحالة الاقتصادية.
وكشف أسقف عام كنائس شرق السكة الحديد، الستار عن عدد من المنشوبيات والمبانى الخاصة بمسكن الرهبان، منها منشوبية «القديس درودي»، وهو سريانى الجنسية، والمعلم الأول للقديس أنبا يحنس كاما، صاحب الدير المندثر، الذى كان متواجدا على بعد قرابة ٣ كيلو مترات، بين ديرى السريان والأنبا بيشوى الحالى بوادى النطرون.
منشوبية «البهمابسيت»
تحدث أيضا عن وجود منشوبية «البهمابسيت» الخاصة بـ ٤٩ شهيدا شيوخ برية شهيت، ومنشوبية «الدماهرة»، وكان يسكنها رهبان من دمنهور، وفق ما يذكره كتاب «تاريخ البطاركة» للأنبا ساويرس ابن المقفع، أن المنشوبية كانت تضم رهبانا من الكتبة، ومن بين المنسوخات لهم مخطوطة رقم ٥٩٧ بالمتحف القبطي، ووجود قلاية أنبا أغاثون العمودي، وهو أحد رموز الكنيسة فى القرن السابع الميلادى وتلميذ للأنبا يؤانس قمص شهيت، ومنشوبية أنبا زكريا أسقف صان الحجر، وقلاية البتانون والتى كان يسكنها رهبان أصولهم من قرية البتانون بالمنوفية.
من جانبه قال الدكتور ماجد إسرائيل، أستاذ القبطيات بجامعة الرور فى ألمانيا، إن الرهبان بدأوا فى سكنة القلالى المتقاربة ومارسوا معيشة فردية، ثم أملت الظروف الطبيعية على ملتجئى تلك القلالى من النساك ضرورة العمل على التجمعات المقاربة تدريجيا إلى أن تمت فكرة التجمع بعد ذلك داخل الأديرة بقصد حماية الرهبان والدفاع عنهم عندما بدأت الغارات العدائية عليهم من البدو.
وأضاف أستاذ القبطيات أن القرن الرابع الميلادى وتحديدا عام ٣٩٩م، كان فى وادى النطرون أربعة تجمعات رهبانية، لكل منها إدارته، وتكون أولى هذه الجماعات الرهبانية فى منطقة القلالى (سيليا) حول قلاية آمون، وبعدها جماعة القديس «مكاريوس» فى «بترا» بالقرب من دير أنبا مقار العامر فى الفترة من (٣٨٤-٣٩٠م)، ثم مجموعة أخرى حول قلاية القديسين «مكسيموس ودوماديوس» حوالى سنة ٣٣٤م.
وأوضح أن خلال الفترة بين (٣٧٥- ٣٨٥م) تكونت مجموعة رهبانية لكل من يوحنا القصير والأنبا بيشوى فى وسط شيهيت، وهذه التجمعات الأربعة كان لكل منها مجموعة من القلالى وكنيسة فى الوسط لها كاهن أعظم، تطورت وكونت الأديرة الحالية.
وكشف أستاذ القبطيات عن أن وادى النطرون يزخر بأعداد كبيرة من الأديرة والقلالى بلغت نحو مائة دير، ثم صارت عشرة أديرة عند مجيء الفرنسيين إلى مصر عام ١٧٩٨ ميلادية، وهي «دير أبى مقار، الأنبا بيشوي، السريان، البراموس، يوحنا القصير، يوحنا الأسود، الأرمن، إلياس، الأنبا نوب، الأنبا زكريا». مشيرا إلى أن أحداث الزمان والغزوات المتلاحقة أبادت الكثير من أديرة الوادى ولم يتبق سوى أربعة: دير السريان، والبراموس، والأنبا بيشوى، ومكاريوس الكبير الشهير بأنبا «مقار».
كمال زاخر: ثروة مصرية.. وليست قيمة مسيحية فقط
أكد كمال زاخر، المفكر القبطى منسق التيار العلمانى بالكنيسة، عدم وجود حصر لعدد الأديرة المندثرة، لما بعد القرن الرابع، خاصة بعد انتشار الأديرة بشكل غير عادى فى الصحارى الشرقية والغربية، وأضاف شهدت الصحراء زحفًا لوفود من كنائس أنطاكية للتتلمذ على يد آباء البرية المصرية، وأشهرهم يوحنا ذهبى الفم، وآخرون من الآباء المصريين، وعاد الرهبان الأجانب لنشر الرهبنة فى بلادهم. ويدينون برهبنتهم للرهبنة الأنطونية التى أسسها الأنبا أنطونيوس، أبو الرهبان المصريين، وكل هذا أدى لعدم القدرة على حصر الأديرة المصرية لكثرة عددها، وكانت مرتبطة بفترات الاضطهاد، فنحن لا نكره الحياة، ولكن نتحاشى المصادمة.
المناخ والحكام
وأضاف زاخر أن الآباء الأولين كانوا يخرجون للأديرة والصحراء يؤسسون قلاياتهم (مكان إقامة) منقسمين فى اتجاهين؛ إما «رهبنة الشركة» حيث يتجمعون فى مكان واحد، وإما «الرهبنة المتوحدة» وهى حفر مغارة فى الصحراء للعيش فيها. وبالتالى كان هناك التنوع والتعدد فى الرهبنة المصرية، ومع تغير طبيعة المناخ وتحرك الرمال اختفى العديد من الأديرة، والبعض الآخر اختفى بفعل الحكام سواء فى العصر الرومانى أو ما بعده، أو الهجوم من قبل غارات البربر أو غيرهم لسرقة هذه الأماكن وخيراتها، كل هذا أدى لهجرة هذه الأديرة.
قيمة مصرية
وقال إن هذه الأديرة ليست فقط قيمة مسيحية أو قبطية، إنما قيمة مصرية تعبر عن ثقافة وقتها بما فيها من مبانٍ وطرق معيشة، لأنها انعكاس للمرحلة التى بنيت فيها. وبالتالى فالحديث عن الأديرة بمثابة الحديث عن ثروة قومية مصرية، وتستطيع تغيير خريطة السياحة الدينية فى مصر، لأن بعض هذه الأديرة يحمل قيمة مسيحية مصرية، مثل الأماكن التى زارتها العائلة المقدسة، وتلك التى عاصرت مقاومة المستعمر الروماني، وكل ذلك مهمل لأسباب غير معلنة.
أمن قومى
ويرى «زاخر» أنه اعتبارًا من أن هذه الأديرة المهملة من مسائل الأمن القومي، فبالتالى يرجع السبب للحكومة، فهى شأن مصرى أصيل وليست شأنا دينيا وحده. فهناك دول لا تملك ١٪ مما نملكه من السياحة الدينية التى لدينا وميزانية السياحة الدينية لديهم تتجاوز ميزانية دولة كما فرنسا، والتى شهدت أحداثا لقصة متداولة حول ظهورات السيدة العذراء لبعض الأبطال والمشهورة بـ«سانت فاتيما» فى مكان ما، وحولت فرنسا مكان الظهور إلى موقع للزيارة وموضوع له برنامج فى جميع شركات السياحة بمستوى العالم، وأصبح هذا المكان يمثل دخلًا كبيرًا للسياحة الفرنسية، بينما مصر تملك أثرا تاريخيا ملموسا، ولم نفعل حياله شيئا للترويج له سياحيًا، وعلى العكس أطلقنا يد المستثمرين لتدمير الآثار لمكاسب غير مضمونة ولقصر نظر.
مؤكدًا أن منطقة الدرجى الموجودة منذ آلاف السنين تم الانتباه لها مع بدء التعمير فى منطقة قناة السويس، اتجهت هذه الأنظار إليها وأصبحت الأديرة القديمة هناك معوقا أمام المستثمرين.
مساكن الرهبان
والأديرة المخفية.. كنوز منسية فى وادى النطرون
عُرفت الرهبنة مطلع القرن الرابع، وبدأت كونها حركة دينية مستقلة عن الكنيسة، وسرعان ما تحولت إلى جزء أساسى من النظام الكنسى، وانتشرت وانتقلت فى بلدان أوروبا، وجاء الكثير ليتعلم أسسها من الرهبان المصريين.
تُشكل منطقة وادى النطرون المعروفة باستخراج ملح النطرون بالماضي، بكافة بقاعها وأماكنها «حقل الملح وشيهيت والأسقيط وبئر هوكر»، شاهدًا أصيلا على التراث المخفى والآثار المنسية.
وفق كتاب «بستان الرهبنة الخاص بالكنيسة» أن منطقة الأسقيط – بوادى النطرون، لجأ إليها الكثير من الرهبان، أحد أبرز هؤلاء القديس مكاريوس عام ٣٣٠ ميلادية، والذى توافد إليه المئات من طالبى الرهبنة، وقام بحفر مغارة بجوار «البلهس» البحيرة، وعدد من الكنائس التى سكنها تابعوه، وتزايد أعداد الوافدين إلى برية الأسقيط نحو ٣٥٠٠ راهب خلال عام ٤١٥ – وفق توثيق أحد أبرز مؤرخى الرهبنة القبطية «بيلاديوس».
تزايدت أعداد المنشوبيات «مسكن الرهبان»، خلال عهد الملك زينون، وتبرعات الأقباط، ومن بين الأديرة المندثرة بوادى النطرون، دير الأرمن الذى شهد خلال عهد الدولة الفاطمية، حينما تولى بدر الدين الجمالى - أحد الأرمن - منصبا وزاريا، وكان تكوين «دير الأرمن» على مساحة ثلاثة آلاف و٢٥٠ مترا، ودير إلياس «دير الأحباش» على مساحة ثلاثة آلاف و٣٠٠ متر، ومن الناحية الشرقية «دير الأنبا نوب» على مساحة ألفين و٧٠٠ متر، و«دير الأنبا زكريا» على مساحة فدان و٤ قراريط، و«يوحنا القصير» – الذى هدمه النمل الأبيض- كان على مساحة ١٦ ألف متر.
حصن دير السريان..
المنقذ من قبضة المعتدين
نظرًا لتوالى الهجمات على الأديرة والرهبان فى القلالى والمنشوبيات، لجأ إلى بناء وتشييد مبانى ضخمة داخل الأديرة تسمي «حصون»، وهى عبارة عن أكثر من طابق ودور، ويكون باب المدخل لها أمام الطابق الثانى على ارتفاع عالٍ.
وتضمن الحصون عادة كنائس للصلوات، عادة ما تكون للملاك ميخائيل والسيدة العذراء، دلالة اللجوء للاحتماء بهما من شر المعتدين، ويحتوى الزاد الذى يضمن استمرارية الحياة للرهبان من جرار المياه والطعام، بالإضافة للجوء إليه فى حالة الخطر.
يصل الرهبان إلى باب الحصن- المبنى بطريقة قوية للغاية ضد ضربات المعتدي- من خلال «قنطرة» خشبية ترتكز من أحد طرفيها على باب الحصن، ومن الآخر على بناء مقابل بسلالم، ثم ترتفع عند اللزوم بسلاسل حديدية.
ويعد أعلى حصن بأديرة وادى النطرون «دير السريان»، والذى شيد مبنى الحصن خلال القرن التاسع الميلادى، ومكون من ٤ طوابق، على غير المتبع بأنه ٣ طوابق فى حصون أديرة وادى النطرون.
فى إطار البحث الرهبانى والدراسة، استطاع الراهب صموئيل السريانى عام ١٩٨٨، اكتشاف ٣ منشوبيات صغيرة من الناحية الشمالية لدير السريان، ورفع رسمًا وسجلًا لهذه المنشوبيات، وساعده عدد من الباحثين الأجانب والمصريين على رأسهم البروفيسور بيتر جروسمان والمهندس بديع حبيب.
وكانت المنشوبيات «مسكن الرهبان الأوائل» لأحد الرهبان المتوحدين وتصميمها معمارى مختلف، لكونها محفورة بالكامل فى أرض صلبة وصخرية، والجزء الخلفى منها حفر بطريقة أعمق، والجزء الأمامى منها «المقدمة» مشيد بالصخور المتوفرة وسقف خشبى وموقعها كان جوار بحيرة النطرون.
تقع المنشوبيات المكتشفة بعد ٣٠٠ متر تقريبا أمام دير السريان، وأعيد ترميم جزء منها قدر المستطاع – وتحمل جدران المنشوبية رسومات ونقوش قبطية، وأوانى فخارية حفظت بمتحف دير «العذراء السريان».
كما تضمنت المنشوبية دهليزا تتفرع منه حجرتان عن اليمين كانتا مخصصتين لتلاميذ - الراهب - وأخريين على اليسار لحفظ الأشياء من طعام وجرار المياه، وآخر الدهليز حجرة للعمل اليدوى ويتفرع منها حجرة للصلاة.
كما شمل الاكتشاف العثور على كنيسة صغيرة، وسط المنشوبيات، تتكون من خورسين بينهما حائط به ٣ أبواب، وعلى الجانبين هيكل الكنيسة ويتضمن المبنى حجرات السكن لشيوخ الرهبان مع تلاميذهم، ومن الناحية الشرقية هناك حجرة مستطيلة كبيرة.
وعقب الاكتشاف سعى الراهب والبعثة لتسجيل المناطق وتوقيعها على خريطة مساحية، وتقدم بتقرير فى إبريل ١٩٩٧ للآثار مطالبين باتخاذ اللازم لحفظ المناطق الأثرية من العبث.
وأخيرا توقيع مساحة الأرض من خلال هيئة المساحة، أقرت هيئة الآثار بتسجيل المناطق لحمايتها وتأمينها من الاعتداءات وعمل حرم لها من كل ناحية مع الاحتفاظ بحق سكنى الرهبان فيها.
جاء فى كتاب «عمارة الكنائس والأديرة الأثرية فى مصر» للراهب صموئيل، عرض لعدد من المناطق التى تحتوى منشوبيات تمكن من استكشافها، وهو ما تحدث به أيضًا الأنبا مارتيروس الأسقف الباحث بأحد المؤتمرات.
ومنطقة المنشوبيات تحتوى على ٤٦ منشوبية «مسكن للرهبان» على المسطح الأرضى الممتد شمال وغرب وجنوب دير السريان على مسافة كيلو متر، موزعة لمناطق اشتهرت بالرهبان الأول سكانها.
وتحتل منطقة يوحنا كامل مساحة نحو ٦٤ فدانا من التباب الصخرية، وترتفع عن الأرض بحوالى ٢٠ مترا، عليها بقايا جدران منشوبيات ومغارات جانبية ويسكنها الرهبان حاليًا، وملحق بها تبة صغيرة فى القمة تظهر منشوبية تعرضت للنبش من لصوص الآثار.
أما منطقة مار أفرام السرياني، والتى تبعد نحو ٢ كيلو متر، خلف منطقة يوحنا كاما ناحية الشمال ومساحتها ٣٥ فدانا، وهى عبارة عن ثلاث تباب صخرية فوقها بقايا جدران وكثير من الفخار وجدران إحدى المنشوبيات يظهر بوضوح.
وأيضًا منطقة المتوحدين، وتبعد نحو كيلو متر شمال غرب دير السريان، وهى منطقة طفلية مرتفعة عن الأرض بحوالى ٦ أمتار، وبطول كيلو متر ينتشر على جوانبها مغارات يسكنها رهبان حاليا.
راهب كفيف ينقذ دير «البراموس» من الخراب
لم تسلم الأديرة المتبقية من الاندثار «البراموس والسريان وأبو مقار والأنبا بيشوى» من أيدى «العربان» المغيرين، وفى أوائل القرن التاسع عشر تعرّض دير البراموس لهجمات متعددة من البربر وغيرهم بغرض السلب والنهب والقتل بين نساكه، وحل الخراب كالمعتاد؛ فهرب أغلب الرهبان وتشتتوا فى جميع أنحاء البرية، ولم يتبق إلا راهب واحد يدعى «عوض الإبراهيمي».
وبعد فترة ليست بقصيرة عاود «المغيرون» الاعتداء على نفس الدير مرة ثانية، ولكن باءت محاولتهم بالفشل؛ لأن الدير كان محصنًا جيدًا من قبل الراهب الكفيف.
دير الأنبا «بيشوى»
سبق وتعرض دير الأنبا «بيشوي» لهجوم من جانب مجموعة من «البدو»، انتهى باستيلائهم على ما يمتلكه الدير من أدوات ومؤن غذائية، وكذلك تعرّض دير الأنبا «مقار» للاعتداء، ونهب متاعه.
اعتداءات البدو
كشف أستاذ القبطيات بجامعة «رور» الألمانية، ماجد إسرائيل، عن أن تزايد اعتداءات البدو على أديرة الوادى دائمة التزامن مع موسم اقتلاع النطرون؛ حيث كانوا يجتمعون ويسكنون حول بحيرات النطرون، وتعددت قبائلهم، فكان منهم الجميعات والجوابيص والحرابى وغيرهم، فأتيحت لهم الفرصة بالإقامة إلى جوار الرهبان، مما أدى إلى اعتداءاتهم على أديرتهم من أجل أعمال السلب والنهب.
وقال «إسرائيل» إن بعض العربان خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، واصلوا الاعتداء للنيل من القوافل والمترددين على الأديرة، مثلما حدث مع قافلة متجهة إلى دير السريان قادمة من عزبة الدير بـ«أتريس» بـ«الجيزة»، وسلب كافة المؤن الغذائية التى يحملونها للدير. وأشار إلى أنه تراجعت الاعتداءات على الأديرة فى أواخر القرن التاسع، مرجعًا ذلك للسياسة التى اتبعها محمد على آنذاك نحو الأمن وتوطين البدو بالبلاد.
وأوضح أن الرهبان شيدوا حصونا للأديرة وتعلية وترميم للأسوار، وأعدوا غرفة الرقوابة (غرفة المراقبة)، أو ضرب الناقوس ضربًا مختلفًا كإشارات دالة على أن هناك خطرًا من غارات للعربان أو قطاع الطرق واللصوص الفرادى وعابرى السبيل، فكان الناقوس لغة مفهومة من طرف واحد وهو الرهبان.
اللجوء للبدو
وتابع: «أن رهبان وادى النطرون لجأوا للبدو أنفسهم لحراستهم فى مقابل تقديم واجب الضيافة، باعتبارهم البدو رحالة يتنقلون من مكان إلى مكان ليلًا، ويمرون بالأديرة أثناء جولاتهم، ويتوقفون ليتناولوا طعامهم، ولكى يستريحوا ويريحوا خيولهم، وكانوا يقدمون إليهم واجب الضيافة من وراء الجدران، فلا يفتحون الأبواب ليلًا».
وأسدل الستار أن الرهبان بأديرة وادى النطرون باتوا يلجأون للبدو لتأدية بعض الخدمات، مثلما حدث لرهبان دير الأنبا «بيشوي» إلى «على صالح» و«الحوفى الحجاوي» لرعى مواشى الدير بالوادي، كذلك اعتمد دير السريان على «منصور عامر»، و«عامر شريعة» فى صحبة قوافل المؤن ما بين عزبة الدير بـ«أتريس» والدير الذى بوادى النطرون.
وتبدلت الحال إلى علاقة حميمة بين الرهبان والبدو مشوبة بالحذر، وقال أستاذ القبطيات: «إنه حال حدث صراع بين اثنين من العلمانيين ممن تحت الاختبار للرهبنة بديرى السريان والأنبا بيشوي، وصل خبره إلى حاكم «الطرانة»، فتدخل أحد العربان لديه ووعده بإنهاء النزاع والصلح فيما بينهما، فحكم على كليهما بغرامة خمسة قروش تُدفع لدى الحاكم، ووافق الطرفان على الحكم».
وأشار إلى موقف آخر عندما وشى أحد الرهبان للبابا «كيرلس الخامس» باستيلاء القمص «يوحنا» على أموال الدير، قام عربان وادى النطرون بكتابة شهادة موقعة من مجموعة منهم، تشهد بحسن سير وسلوك والتزام هذا؛ لإزالة شك البطريرك.
إنشاء حصون
كما أكد الأب باسيليوس المقاري، أحد شيوخ دير الأنبا مقار – بوادى النطرون، أن هناك الكثير من الأديرة والكنائس المندثرة جاءت نتاج هجر رهبانها على خلفية المآسى التى شهدوها من الهجمات، سواء الفرس أو الأمازيغ المنتشرين بالجزائر وليبيا وسعوا إلى تأسيس دولة.
وقال الراهب المقارى إن تكرار وتوالى هجمات المعتدين على الأديرة ونهب محتوياتها دعا حكام القسطنطينية وروما إلى تبنى فكرة إنشاء حصون يلجأ إليها الرهبان حال وجود غارات أو هجمات.
وأوضح أن دير يؤانس أو يوحنا القصير اندثر نظًرا لهجوم الحشرات وليس غارات المعتدين، بينما أصابه النمل الأبيض، ونخر وأكل أخشاب الدير مما أدى إلى تهدمه، ولذا نقل رهبان دير «القصير» رفات الأب يوحنا القصير إلى دير الأنبا مقار. وأشار إلى أن الأرمن كان لديهم دير يعيشون فيه ويتعبدون به وانقرض تواجدهم بالصحراء فاندثر الدير، وغيره من الأديرة بالصحاري، وهو ما تسرده العديد من المجلدات.
منوهًا إلى أن البعض حاليًا لا يحبذ اللجوء للرهبانيات فى الصحارى نظرًا لوجود أديرة قريبة من المدن، متابعًا: «أن هناك ضرورة ملحة للحفاظ على الكنيسة القديمة والتراث، من خلال متخصصين ولا يقتصر الأمر على المبانى والقلالى والمنشوبيات والأديرة، بينما التراث الطقسى وقوانين الكنيسة وغيرها، فإن تراث الكنيسة ليس مبان فحسب، لكن تعاليم وإيمان، مما يعيد الأديرة القديمة للحياة مجددا بروح الرهبان الأوائل».
أديرة أثرية
مهددة بالدمار
على طريق خليج السويس وسط ركام الجبال والتلال، يقع بقايا دير القديس يوحنا الدرجي، أو يوحنا السُلمي، والمعروف بـ«أبو الدرج» والخاضع للمجلس الأعلى للآثار بموجب قرار رقم ٨١٧ لسنة ٢٠٠٥.
ويقع على مساحة شاسعة من الجبل، نظرًا لانتشار المنشوبيات والكنيسة الأثرية وغيرها، وتعانى آثار الدير خلال الفترة الحالية حالة من الإهمال، بعدما كانت ملجأ للحجيج وزوار القدس فى السابق، لأنه دير يرجع تاريخه للقرن الرابع الميلادي.
وأصدر مجمع رهبان دير الأنبا بولا – المشرف على الدير - تقريرا مفصلا، تم تقديمه لكل الجهات المعنية، يوضح بدقة تاريخ الدير وأهميته، حيث يوجد فيه بئر أبوالدرج، الذى كانت تأتى إليه كل رحلات الحجيج الذاهبة إلى القدس.
وظلت أطلال أبوالدرج على طريق العين السخنة - الزعفرانة، ومنشوبيات الدير، ومغاراته أعلى جبل أبوالدرج، وقد رصد تلك المعالم ووثقها بدقة الأب موريس مارتن، بعد الاكتشافات التى عثرت عليها بعثة حفريات الآثار الفرنسية، فى ستينيات القرن الماضي، ونشر عنها المعهد العلمى الفرنسى للآثار الشرقية، التابع لوزارة الثقافة الفرنسية.
كان الدير والقلايات بداخله طوال الوقت مكانا لخلوة آباء دير القديس الأنبا بولا، ولا تزال كنيسة المغارة التاريخية عامرة برهبان من دير الأنبا بولا، وحاليا يشهد محيطه أعمال طريق الجلالة الفرعي، وتحيط به أحلام استثمارية من رجال أعمال بدا اعتزامهم تجريف وتمهيد للتشييد والبناء، بينما يتخوف رهبان دير الأنبا بولا ومحبو التراث من المساس بالآثار.
مدينة بومينا.. أطلال فى صحراء مريوط
تقع منطقة بومينا الأثرية عند الحافة الشمالية للصحراء الغربية، التى يطلق عليها بدو المنطقة اسم (أبومينا)، وكانت فيما مضى قرية صغيرة ويقع بها مدفن القديس مار مينا، وكانت المنطقة حتى العصور الوسطى المبكرة أهم مركز مسيحى للحج فى مصر والمنطقة تقع غربى الإسكندرية.
كما يوجد مدق صحراوى واضح المعالم يمتد لمسافة ١٢ كيلو مترا فى اتجاه الجنوب، حتى يصل الى منطقة الآثار، وقد اكتشف هذا المكان فى عام ١٩٠٥ على يد عالم الآثار الألمانى كوفمان، الذى تمكن فى صيف عام ١٩٠٧ من الكشف عن أجزاء كبيرة منه، وفى عام ١٩٧٩ قررت لجنة اليونسكو إدراج منطقة بومينا الأثرية ضمن قائمة التراث العالمي، وبذلك أصبحت واحدة من أهم الأماكن التاريخية بمصر.
مقبرة الشهيد مارمينا
قام العالم الأثرى بريشيا، بالتعاون مع المتحف اليونانى الرومانى، ببناء سور حديد حول مقبرة القديس مينا فى الفترة ما بين عامى ١٩٢٥- ١٩٢٩، ثم بدأ التنقيب مرة أخرى من قبل المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة، بقيادة عالم الآثار الألمانى بيتر جرسمان فى الفترة ما بين ١٩٦١ وحتى عام ٢٠٠٢.
وأسفرت نتائج الحفائر عن كشف قبر القديس تحت الأرض، والمتواجد فى الوقت الحالى تحت الكنيسة المعروفة بكنيسة المدفن، وقد شيدت مقبرة لرفات القديس مينا فى بادئ الأمر على سطح الأرض، وكانت عبارة عن بناء مفتوح ذى أربعة قوائم، ولم ينقل إلى تحت الأرض، إلا فيما بعد، والمقبرة الحالية عبارة عن مكان به درجان، أحدهما مخصص للنزول والآخر مخصص للصعود، مما يدل على كثرة عدد الزائرين للمقبرة، ويؤدى السلم إلى ردهة مربعة الشكل مزودة بالأعمدة فى كل أركانها ويعلوها قبو متقاطع، وبعد ذلك ممر ذو عقد مقوس يؤدى إلى حجرة الدفن، وكانت حجرة الدفن تعلوها قبة وأمام جدارها الجنوبى القبر المبنى من الأحجار، الذى يضم جسد الشهيد، وكان مزدانًا بالزخارف.
قارورات فخار
كما عثروا أثناء الحفر على ما يعرف بقارورات مارمينا المصنوعة من الفخار، ومتعددة الأحجام، وكانت لحفظ المياه المباركة، التى نبعت من عين بجانب القبر، وكانت تشفى الكثير من المرضى.
ويمكن تقسيم تلك القارورات إلى ثلاث مجموعات، والأكثر انتشارا هى المحفور على أحد وجهيها القديس مينا واقفًا بملابسه الجندية بين جملين، والأخرى فقد وجد فيها وجه القديس مارمينا بشكل جانبى وبملامح نوبية، وهو التصور الموجود فى المتحف القبطى، والأخيرة من القارورات عليها صورة القديسة تكلا لارتباط المقدّسين المسيحيين بزيارة ديرها الواقع بالقرب من منطقة أبومينا.
تدمير المدينة
وخلال عهد الملك محمد بن قلاوون، تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية، تعرضت كنائس وأديرة الأقباط للتخريب والحرق فى ربوع مصر، دون حصر كامل بالخسائر من قتل وهدم وحرق للكنائس، ومن بين الأماكن المضارة مدينة مارمينا بصحراء مريوط، والتى كانت ضمن المناطق التى خربت تمامًا، وتم تهجير سكانها، وحرقت وهدمت كنائسها وديرها واندثرت معالمها على أيدى المعتدين، وبلغ تقريبا حجم الخسائر من حرق وتدمير الأديرة ٥٤ كنيسة وديرا فى يوم واحد عام ١٣٢٠.
وخلال القرن العشرين استطاع البابا كيرلس السادس البطريرك رقم (١١٦) إعادة مكانة المدينة مرة أخرى، بعدما قام بتشييد دير مارمينا العجايبى، وهو التى تقع خلفه مدينة بومينا التى كان بها جسد القديس مارمينا.
هجمات على المسيحية
ومن جانبه، أكد ماجد الراهب، عضو المجلس الأعلى للثقافة «لجنة الآثار»، رئيس مجلس إدارة جمعية المحافظة على التراث المصرى، وعضو المجلس الاستشارى لوزير الآثار بالمتحف القبطي، إن القرن الـ ١٣ الميلادى شهد هجمات متعددة على المسيحية، وصلت إلى حد التهديد بقطع لسان المتحدث بالقبطية، ولذا تراجع الزخم عن الأديرة ووصل لمرحلة الاندثار، مشيرا إلى أن عمر بن طوسون، حفيد محمد على رصد وسجل العديد من الأديرة الأثرية القديمة وأماكن تواجدها فى مجلدات، وبخاصة بمنطقة وادى النطرون، والتى تحدث عنها وعن بومينا بالإسكندرية الكثير من الرحالة والمؤرخين.
وأضاف الراهب أن المدينة الرخامية بومينا كانت ثرية للغاية بالتواجد الكنسي، مما جعلها فى حقبة تاريخية ملجأ للحج والزيارة بعد دفن جثمان مارمينا فيها، وتكونت المدينة بالكامل ووفرت الخدمات المتاحة للزوار.
وتابع: «إن اكتشافها ومكانتها دعيا اليونسكو لوضعها فى التراث العالمى ضمن ٧ أماكن مسجلة فيه، ونظرًا لتردى حالتها والإهمال الفج وتعرضها للسرقة لغياب التواجد أو توفير حماية، هدد اليونسكو منذ فترة برفع اسمها من سجل التراث العالمي، ولذا عادت هيئة الآثار للاهتمام بالمنطقة ومتابعتها.
أديرة مندثرة
وعن الأديرة المندثرة، كشف وجود العديد من الأديرة المندثرة فى ربوع مصر، مثل دير أم البرمجات بالفيوم، والذى حمل اسم إحدى القبائل العربية بالمكان، ودير الأنبا أرميا بمنطقة سقارة، ووضع ما تبقى من أثره بالمتحف القبطي، وكذا دير باويط فى أسيوط وما زال بعض آثاره بالمتحف.
دعا الراهب الجميع لضرورة إعلاء الوعى الثقافى والاهتمام بالتراث المصرى والآثار القبطية، كونها جزءا لا يتجزأ من مصر، وقال: «إن المنشوبيات والأديرة جزء من تاريخ مصر لا يمكن اجتزازه، مما يستدعى رفع درجة الوعى للجميع بضرورة الحفاظ عليها»، وأضاف أن بعض الرهبان بحاجة لمعرفة وإدراك أهمية التراث والحفاظ عليه وعدم استبداله أو استحداثه على يد المتخوفين من السكنى فى المبانى القديمة ويرغبون استبدالها أو استحداثها.
وعن استكشاف أو إظهار الآثار من باطن الأرض، أكد الراهب أن استكشاف الأماكن الأثرية عموما، ومنها القبطية يحتاج أموالا طائلة وإمكانيات الوزارة لا تتيح ذلك، ولذا يجب توطيد العلاقات مع الدول الصديقة لإعداد بعثات استكشاف.