الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

محافظات

العبيد في بر مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى مثل هذه الأيام من العام ٢٠١١ رحل عن عالمنا الكاتب الصحفى حسام تمام، وذكرنا به الكاتب محمد حميدة على صفحات «فيس بوك»
كان من أهم ما كتبه تمام هو البحث الذى تناول المسكوت عنه فى عالم العبيد فى بر مصر.
يقول تمام: لفت انتباهى قضية قد لا يعلم الكثيرون عنها شيئا، وقد تمثل لهم نوعا من الصدمة، فحين كنت صغيرا أزور قريتى «البربا» آخر قرى أسيوط قادما من الإسكندرية، تعرفت إلى عالم «العبيد»، واصطدمت بحقيقة مربكة حول أن العبودية فى مصر لم تنته بعد، بل طورت من صياغتها ومن صورها واتخذت أشكالا عدة تراوحت بين الاجتماعى والدينى، وضمنت لنفسها البقاء بالتحايل على كثير من الظروف وعلى استغلال ظروف أخرى، منها ما هو اجتماعى أنثروبولوجي ومنها ما هو اقتصادى بحت.
بالمناسبة، قرية البربا بمركز صدفا فى أسيوط هى قرية بالغة القدم ويعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهى واحدة من عدة قرى فى مصر كلها تحمل اسم «البربا»، الذى يعنى بالفرعونية «بيت البر أو القمح»، وتنتشر هذه الظاهرة فى عدد من محافظات الصعيد، خاصة فى أقصى الجنوب ويندر وجودها فى محافظات الوجه البحرى، وأكثر المحافظات التى تنتشر فيها ظاهرة العبيد محافظات أسيوط وسوهاج وقنا وفى أجزاء من أسوان وتقل تماما فى المنيا، بينما لا تعرف محافظات الوجه البحرى ظاهرة العبيد باستثناء بعض مدن محافظة الشرقية، خاصة تلك التى تقطنها قبائل وعائلات تنحدر من أصول عربية، وتكاد تكون الشرقية الاستثناء الوحيد فى الوجه البحرى، بعكس محافظات جنوب الصعيد التى كانت الظاهرة منتشرة فيها بكثافة إلى وقت قريب، وإن أخذت فى الانحسار تدريجيا فى السنوات الأخيرة لدى عدد من العائلات الممتدة التى كانت ذات نفوذ أو ثراء.
ففى أسيوط مثلا لا تخلو معظم مراكز المحافظة من عائلات لديها عبيد، ويتركز وجود هذه العائلات فى مراكز البدارى وصدفا وأبنوب وساحل سليم والغنائم وديروط.
وتمتد الظاهرة إلى سوهاج أيضا خاصة فى مناطق العسيرات والعرابة وبعض قرى جرجا فى عدد من العائلات التى يجمعها قاسم مشترك هو العراقة، حيث تضرب معظم هذه العائلات بجذور عميقة تعود لقرون ماضية كانت تمتلك فيها العبيد بشكل قانونى، وقت أن كانت العبودية واقعا اجتماعيا تجيزه الأعراف والقوانين والشرائع قبل صدور التشريعات والقوانين الدولية التى ألغت ظاهرة الرقيق وحرمت تجارتها.
وعبيد هذه الأيام هم سلالة العبيد فى العصور الماضية قبل إلغاء العبودية فى مصر فى عهد الخديو إسماعيل، وتنحدر أصولهم من الحبشة وجنوب السودان وأواسط إفريقيا، وهو ما يؤكده إدوارد وليم لين فى كتابه المعروف «المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم»، والذى كتبه فى أوائل القرن التاسع عشر، حيث أشار إلى أن أصول هؤلاء العبيد تعود إلى قبائل الجلا والأحباش، وهى شعوب مشتتة الآن فى إفريقيا الوسطى والحبشة، وكانت العائلات الكبرى فى القرنين الماضيين تحصل على هؤلاء العبيد بالشراء من تجار النخاسة الذين كانوا يخطفونهم من ذويهم، أو يجلبونهم بالشراء من أواسط إفريقيا وجنوب السودان ويبيعونهم لسادة العائلات واسعة النفوذ والثراء، كما جاء معظمهم عن طريق حملات «محمد على» فى جنوب السودان التى تسببت فى زيادة ملحوظة فى عدد العبيد فى مصر فى هذه الفترة.
ولعبيد هذه الأيام الصفات الجسمية نفسها لأجدادهم، فمعظمهم أسود اللون ما عدا العبيد الذين تزوج آباؤهم من فلاحات، (وهو لفظ يطلق فى الصعيد على النساء اللاتى يعملن فى الزراعة أو البيوت تمييزا عن نساء العائلات التى يحرم عليهن ذلك)، وربما كان ذلك السبب فى إطلاق لفظ العبد على الأسود، حتى ولو لم يكن عبدا، ويتسم هؤلاء العبيد بالضخامة والقوة الجسمانية والقدرة على تحمل العمل الشاق وغيرها من سمات أبناء مناطق إفريقيا والحبشة، كما اشتهروا بطول العمر، حيث يكثر بينهم المعمرون خاصة بين النساء.
وقد بدأت هجرة عبيد الصعيد مع الانفتاح الاقتصادى فى نهاية السبعينيات وتصاعد مد التحديث هروبا من الوضع الاجتماعى المتدنى، خاصة مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التى طرأت على الصعيد والتى اندثر معها كثير من التقاليد والأعراف أو ضعف تأثيرها إلى حد ما، وأكثر فئات العبيد التى تركت قراها وانفكت عن سيطرة عائلاتها هى تلك التى حصل أبناؤها قدرا ولو ضئيلا من التعليم، أو احتكوا بالمجتمعات الأخرى أو سبق لهم السفر خارج القرى.
هذا قليل من فيض كثير تناوله بحث الراحل حسام تمام، هل من نظرة على تلك الأوضاع المتدنية أم يتم «الطرمخة» عليها، مثلها مثل غيرها من الأوضاع غير الآدمية التى يعيشها المصريون؟