الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لمن أشكو كآبتي؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أنا أيها السادة الزوجة الوحيدة لى هى الأرض الرطبة.. هى القبر.. مات ولدى وأنا ما زلت حيًّا.. هذا أمر غريب.. لا بد أن الموت كان قد طرق الباب الخطأ.. فبدلًا من أن يأتى إليَّ ذهب إلى ولدي!!
كان هذا رد الحوذى «أيونا» على أحد ركاب العربة التى يقودها وتجرها فرسه، حينما سأله: هل أنت متزوج؟.. أتدرون من «أيونا»؟.. أيونا بطل قصة «أنطوان تشيخوف» القصيرة «لمن أشكو كآبتي».. أيونا فى القصة يرمز إلى الإنسان المعدم المهدر الذى يعيش على الهامش.. لقد مات ابنه، وحاول مرارًا أن يحكى لركاب العربة التى يعمل عليها سبب وفاته، ولكن لم يكن من بينهم من يكترث لكآبته.. كان كلما ساد الصمت انتهز الفرصة وتطلَّع نحوهم، ثم قال: (أصلًا أنا هذا الأسبوع ابنى مات)! قالها ذات مرة؛ فرد أحدهم: (كلنا سنموت.. هيا عجِّل عجِّل!).
إنه يريد أن يشكو كآبته، يريد أن يتحدث لأحد عن كيف مرض ابنه؟ وكيف تعذَّب؟ وماذا قال قبل موته؟ وكيف مات؟.. (أنا يا سيدى هذا الأسبوع ابنى مات)؛ فيرد عليه قائلًا: (مـممم!.. مات إذن).. لا أحد يُصغى لأحد يا أيونا، فماذا يعنى لهم أن يموت صبيك الصغير من الحمى؟ لا شيء.
أيونا لست وحدك من يريد أن يشكو كآبته، فالكل يبحث عمن يشكو إليه، جميعنا يحتاج إلى من يبوح له بهمومه، يحتاج إلى مَن ينصت إليه، رغم علمه أنه لن يقدم له شيئًا، ولكنه يريد أن يشكو كى يُخمد بركان الحزن فى صدره.. نعم كل منا يبحث عن شخص يشكو إليه حزنه وألمه حتى لو كان غريبًا.. نحتاج أن نشعر بأن هناك من يتألم لأجلنا، فالقلوب مليئة بالأوجاع، والنفوس متعبة حزينة.. ولكن هيهات، فالإنسان قد يشفق على جريح، ولكنه لا يحس ألم الجرح إلا إذا أصابه. 
هل تعرفون الإنسان مُهْدر الوجود، المقذوف به بعيدًا عن هذا العالم، مهدرة حكاياته، مهدرة أحزانه، الإنسان الذى يستغل أية فرصة أو حدث ليحكى حكايته، فحكايته هى دليله الوحيد على أنه وُجد يومًا ما، وأنه عاش فعلًا، ذلك الإنسان الذى يخاف من هذا العالم البارد المتجاهِل، الذى لا يُلقى له بالًا، ذلك الإنسان الذى تجده مستلقيًا على جوانب الأرصفة وتحت الممرات، ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظ وحشته ووحدته، رغم أن وحشته لا حدود لها!
يبحث أيونا ذلك الإنسان المهدر عن أذن تسمعه، ولكنه لا يجد، الكل يتجاهله، الكل مشغول بحكايته، بل منهم من يحاول إهانته (ألن يجد فى هذه الآلاف من يصغى إليه؟!).. ويستمر البحث دون جدوى، لم يجد من يسمعه سوى فرسه.. (ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقتين: أتمضغين؟ حسنًا امضغى امضغي.. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس.. نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابنى لا أنا، كان حوذيًّا أصيلًا لو أنه فقط عاش.. ويصمت أيونا بعض الوقت، ثم يواصل.. هكذا يا أخى الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودًا.. رحل عنا فجأة.. خسارة.. فلنفرض مثلًا أن عندكِ مهرًا وأنتِ أم لهذا المهر.. ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفًا؟!.. وتمضغ الفرس، وتنصت وتزفر على يدى صاحبها.. ويندمج أيونا؛ فيحكى لها كل شيء!)
هكذا انتهى به المطاف، فشكا لفرسه بعد أن تجاهله البشر، فأحيانًا ما يكون الحيوان أكثر عطفًا من بعض البشر.. لا تشكُ للناس جُرحًا أنت صاحبه.. لا يؤلم الجرح إلا مَن به ألم.