تبدأ «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته.
ونبدأ الآن في استعراض «نسائيات» باحثة البادية التي تقول في مقدمتها «فإني فكرت في تجميع مقالاتي وطبعتها كتابًا أقدمه للأمة المصرية الكريمة راجية أن تغفر لي زلة القلم فيه، وتمضي في تواضع يزيد من قيمة كتابتها الممتعة والسلسة الأسلوب؛ فإني مبتدئة ولا يعدم المبتدئ أغلاطًا. وأنا لا أدعي فيه ابتداعًا ولا إبداعًا فما هو إلا سلسلة مشاهدات ما قصدت من نشرها إلا النفع العام والدفاع عن المرأة المهيضة الجناح».
ونبدأ بمقالات الكتاب.. وتمتلك ملك حفني ناصف الشجاعة والجرأة لتبدأ في أول مقال لها بالرد وربما بانتقاد أحمد لطفي السيد مدير «الجريدة»، والمقال عنوانه: «رأي في الزواج وشكوى النساء منه»- ردًا على ما كتبه حضرة مدير الجريدة في العدد ٣٨٣ بعنوان «بناتنا وآبائنا»، ونترك رأي أحمد لطفي السيد، ونأتي إلى آراء باحثة البادية «أن الفتاة كانت إذا شبت وجدت والدتها تعيش مع ضرة ورأت خالتها وعمتها كذلك.
أما ما نراه من بنات العصر الحالي فحتى الجاهلات منهن يفهمن الحياة أكثر، فأصبحن يقدرن السعادة الزوجية وأصبحن يعرفن أن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما، ثم يتنافران ويتشاحنان كأمثال الديكة الخرقاء» (ص٤).
وهى تضع يدها على جرح صعب وهو أن الرجل يعتقد أنه لمجرد أنه رجل من حقه أن يتهتك وأنه «على كيفه»، وليس عليه عار في ذلك، وتقول له ولأمثاله «ائتنى بآية من القرآن، أو إن كان القرآن عندك مجرد (أنتيكة) فأتتنى بمادة من القانون الفرنسي تحرم التهتك على النساء وتسمح به للرجال» (ص٥). ولكن أغلب النساء تمنعهن تربيتهن الصحيحة وشرف مبادئهن من الإخلال بالدين والآداب، بينما أزواجهن على تهتكهم، فتكثر همومهن ويعدمن لذة العيش فى الظلم.
فلماذا يشقى عضو من المجتمع بينما الطرف الآخر يمضي لاهيًا سعيدًا؟ ثم هي تروي كيف يمكن للمرأة أن تهتم بزوجها وأن تسعى لإسعاده فتقول إنها سألت صديقة إنجليزية من صديقات ليدى كرومر، قائلة إني ألاحظ أن الليدي تترك التأنق في ملبسها شيئا فشيئا، وأجابت «أنها تتعمد ذلك لتبدو أكبر سنا؛ لأن زوجها شيخ وتحب ألا تسىء إليه بمظهر يتبدى هو فيه شيخا بينما هى أصغر منه سنا».
ثم تقول: «ألا فلينتبه الجميع لذلك وليتق الرجال الله في نسائهم وأعراضهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر وفي العلن.
ويا قوم تداركوا الأمر قبل فواته؛ فإن كنتم ترضون لنظام بيوتكم بالاختلال وللثقة بينكم وبين زوجاتكم بالضياع ولأمتكم بالتأخر فاستمروا على فسادكم، وإن كانت فيكم بقية غيرة وحمية وتحبون وطنكم كما تدعون فأصلحوا أحوالكم تصلح أحوال نسائكم، وتنزعوا شوك الهم من بيوتكم وتسنون سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم، يكن أجرها إلى يوم الدين ولله عاقبة الأمور» (ص٧).
والمثير للدهشة وللاحترام معًا أن أحمد لطفي السيد لم يرد عليها ولم يدخل معها في جدل، فقد آثر أن يتركها لتعبر عن وجهة نظرها وتكتسب القدرة على التحدي، والاجتهاد في الرأي دون تردد وقد كان، وأصبحت باحثة البادية قادرة على وراغبة في الاندفاع للجدل وإبداء انتقادات وتصويبات حتى على كتاب كبار.
ثم يكون المقال الثاني لباحثة البادية بعنوان «الحجاب أم السفور- رد على خطبة ألقاها حضرة عبدالحميد أفندي حمدي بشأن الحجاب»، ونلاحظ ابتداء أن ملك حفني ناصف إذ عاشت في قصر زوجها في بادية الفيوم.
وإذ تمادت فتحدثت عن تحرير المرأة ورفض تعدد الزوجات. وحضرت مجالس وأندية فقد تأقلمت وربما لتحقيق توازن قد يرضى زوجها «شيخ العرب» بعض الشيء؛ فارتدت على رأسها ذات الغطاء الذي تضعه نساء بداية الفيوم، ونقرأ لباحثة البادية «أشكر الأديب عبدالحميد حمدي على اجتهاده وشجاعته الأدبية واهتمامه بترقية المرأة، وخطبته صحيحة المقدمات متينة المبنى إلا أن لي رأيا أبديه، وأنا أعلن أن كل امرئ حر في رأيه وفكره وحر في قبول فكرة غيره أو رفضها بشرط ألا يضر ذلك الرفض أو القبول بالغير» (ص٧).
وتمضي ملك قائلة: «أما ما يرجوه الكاتب من تعليم المرأة تعليما صحيحا؛ فإني أوافقه فيه تمامًا، ولن أطيل فى ذلك فقد وفاه الخطيب حقه وجزاه الله عنا خير الجزاء»، ثم تأتي إلى المسألة التي تراها هي أنها شائكة «بقيت مسألة الحجاب وهي مسألة عويصة قامت من أجلها منذ سنين معارك قلمية عنيفة على غير جدوى فلم يفز فيها المحافظون على القديم ولا الأحرار».
ثم تمضي قائلة: «ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية؛ لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا فى هذه المسألة ولا من الوجهة الأدبية، ولم يبق للموضوع إلا شقه الاجتماعي» (ص٨).
ثم تقول: «لسنا متبعات رأى من يأمرنا بالحجاب ولا رأى من يقول بخلعه لمجرد أن هذا كتب وخطب، وإنما نتبين الرشد من الغى»، وتدخل بنا باحثة البادية إلى تحليل اجتماعي؛ فالمجتمع ثلاث طبقات: فطبقة الغنيات يطلقن لأنفسهن العنان في التبهرج تقليدا للأجنبيات ويصخبن في الملاهي ثم يعدن ليتركن المنزل والأولاد لرعاية الخادمات، والطبقة الدنيا تجد من الفقر دافعا لها للعمل لتجلب ما تسد به الرمق؛ فيختلطن بالرجال فى المصانع والمزارع. أما طبقة الوسط فهذه دائما أحسن الطبقات آدابًا وأكثرهن حشمة ووقارا» (ص٩).
ثم تأتي ملك حفني ناصف لتطالب أولا بتهذيب المجتمع، وتقول: «ناشدتك الله أيها الأديب كيف تأمرنا بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة فيرمقها هذا بنظرة فاجرة وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء»، ثم «والمتعلمات في مصر الآن يزددن عددا وفيهن من يصح أن تلقى إليهن قيادة إخواتهن. وسيجئ زمن ينشأ فيه جيل من النساء غير جيل السحر والزار والأحجبة وهؤلاء يثمر فيهن البذر، ولقد يتعب الخطيب نفسه في نصح النساء، ولقد تكون من السامعات من تتقلدن القبعات ويسرن متباهيات بأنهن من ذوات الفكر الحر وصاحبات التمدن» (ص١١).
وتقول: «إن خروجنا بغير حجاب لا يضر بذاته إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا في غاية الكمال»، ثم تدهشنا إذ تقول ربما لإرضاء زوجها شيخ العرب أو اتقاءً لغيرته: «لم يأن الأوان بعد لرفع الحجاب، فعلموا المرأة تعليما حقا، وربوها تربية صحيحة، وهذبوا الشباب وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبا، ثم اتركوا للمرأة شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة».
وإننى أدعو الباحثين للتفكير فى إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطباع بلاده ولا تعوقنا عن اقتطاف ثمار التمدن الحديث. ونتواصل مندهشين مع ملك حفنى ناصف.