كنت أدرس آلتى المحببة الفيولا فى القاهرة مع الخبير الأجنبى «أرتشيل خاردزي»، وهو أستاذ بارع من جيورجيا، وفى نفس الوقت يتمتع بمهارات فائقة كعازف للفيولا.. وحين جاء أول مرة لمصر كان يعرف نفسه دائما دون ألقاب، فى نفس الوقت وجد كل من يتعرف عليه يلقب باللقب العلمى «دكتور».. ولم يكن يفهم سر وجود هذا العدد الكبير من الدكاترة، فى حين أن بلده الذى يتميز فى هذا النوع من الفن لا يحمل فيه هذا اللقب العلمى فى هذا المجال سوى القليل جدا، كذلك فرنسا التى كان يعمل بها لسنوات طويلة قبل قدومه إلى مصر! لذلك كان يعبر عن استغرابه من هذه الظاهرة بمقولته المضحكة ولغته العربية الضعيفة: «مصر مستشفى كبير كله دكتور!».. والغريب أن الكثير ممن كانوا يحملون هذا اللقب العلمى لا يتمتعون بكفاءة من الناحية العملية فى مجال العزف، رغم أن الشهادات التى حصلوا عليها من الخارج لم تكن تتضمن دراسة مواد نظرية، بل كانت تعتمد على العزف فقط!! وذلك لأنهم حصلوا على شهاداتهم فى العزف من مدارس موسيقية متواضعة، ولكن نظرا لعدم وجود كوادر فى ذلك الحين تمت معادلة تلك الشهادات فى مصر بالدكتوراه!! رغم أنها فى الحقيقة لا تزيد عن دبلوم متوسط! ولأن الكثير من العازفين لم يكونوا قد حصلوا على شهادات علمية حقيقية، لذلك كان الكثيرون منهم يسفهون أمام تلاميذهم من قيمة العلم فى هذه المجالات، بادعاء أن الدراسة النظرية ليس لها أى علاقة بالتمكن والمهارة فى العزف، وكنت ممن يظنون ذلك، حتى أنهيت دراساتى العليا وشرعت فى إعداد الماجستير، استكمالا لطريقى المهنى الطبيعى كمعيدة، وكانت الفكرة التى ترسخت لدى وأبناء جيلى، أن إعدادنا للرسالة العلمية ليس مجزيا أو نافعا سوى للحصول على ترقياتنا الطبيعية!! وما إن بدأت فى الإعداد لرسالة الماجستير، التى اخترت لها موضوعا جديدا ليس له مراجع باللغة العربية، ظنا منى أن هذه هى القيمة الوحيدة التى يمكن أن أضيفها، بوجود مرجع باللغة العربية لهذا الموضوع، ولكن لم أكن أعلم أننى سأتفاجأ بأن الأداء والعزف -حتى- يعتمدان على منهج علمى موجود بالكتب الأجنبية، ومتفق عليه، وأن تقنيات العزف المختلفة التى كنا نحصل عليها من خلال الأداء والتجربة فقط، كان يمكن أن نحصل عليها بطريقة أسهل وأفضل من خلال تطبيق المنهج العلمى، واستخدام المفاصل والعضلات وأجزاء الجسم بطرق معينة قادرة على تحقيق النتيجة دون تجارب، ولكن لأن الكثير من الأساتذة لم يكونوا قد حصلوا على دراسات نظرية، وبالتالى لم يقرأوا أو يدرسوا المناهج العلمية فى الكتب النظرية، لذلك كانوا يقومون بالتدريس من خلال التجربة فقط، وهو ما يستغرق جهدا أكبر ووقتا أطول كثيرا، ففهمت أن الدراسة العلمية والنظرية لها دور حقيقى للارتقاء بتلك الفنون إذا طبقنا المنهج العلمى، وبالطبع فإن مجال العزف كغيره من المجالات الفنية والتطبيقية، لا يشترط فيه الحصول على درجات علمية لتحقيق الإبداع والنبوغ، بل يمكن أن يكون بعض الموهوبين من خلال الدراسة ودون الحصول على شهادات كبيرة أكثر مهارة من أصحاب أرقى الشهادات، فالتميز العلمى ليس شرطا أن يصاحبه تميز فنى ومهنى، وهو ما نراه فى الكثير من المجالات الفنية والأدبية، فليس شرطا أن يكون أستاذ الأدب فى الجامعة يتمتع بموهبة فى الكتابة الأدبية.. ولكن دور الأستاذ الأكاديمى أن يقدم العلم والمنهج العلمى للدارسين حتى يتمكنوا من تطبيق القواعد العلمية والنظرية بشكل عملى، وبالطبع فإذا اجتمعت الموهبة والمهارة مع التفوق العلمى تحقق ذلك الارتقاء بتلك المهن بأقصى شكل ممكن، ولكن المشكلة حينما يحاول البعض الالتواء على الحقيقة، ويحاولون التمتع بألقاب علمية ليسوا جديرين بها، للوصول إلى مناصب عليا لا يستحقونها، ويصبح بالتالى من يقوم بتدريس العلم لا يفقه فيه شيئا، ونجد بعضا ممن يقومون بمناقشة الرسائل العلمية لم يقوموا بإعداد رسالة علمية خلال حياتهم، وبالتالى يفتقدون القدرة على التقييم، هذا الموضوع الهام يحتاج من الجهات الرقابية دراسته والبحث فيه، وفتح ملفات لجان المعادلات بالجامعات المصرية، التى تم فيها معادلة شهادات متوسطة بشهادتى الماجستير والدكتوراه رغم أنها لا ترقى إلى بكالوريوس! لأن التهاون فى منح الدرجات العلمية ومعادلاتها قلل من قيمة شهاداتنا فى العالم، وأصبحت بعض الدول لا تعترف بها، فتقوم بإعادة تقييم من يحملونها، وحتى لا نجد أنفسنا محاطين بمسئولين لا يحملون سوى ألقاب مزيفة، فلا نشعر بقيمة العلم أو نقدر العلماء.
آراء حرة
مصر مستشفى كبير!!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق