تبدأ «البوابة» نشر حلقات الدراسة الأخيرة التي كتبها المفكر الكبير الدكتور رفعت السعيد عن باحثة البادية -ملك حفني ناصف- قبل رحيله داعين الله أن يتغمده برحمته
سنبدأ اليوم رحلة ممتعة مع كتاب ممتع لباحثة البادية عنوانه «النسائيات - مجموعة المقالات التى نشرت فى «الجريدة» فى موضوع المرأة المصرية.. الجزء الأول- مطبعة الجريدة – سنة ١٣٢٨هـ»، والنسخة التى بين أيدينا نسخة نادرة ولعلها وحيدة، فقد صدرت عام ١٩١٠ وفى حدود علمنا لم تطبع من هذا الكتاب طبعة ثانية.
وتمثل «النسائيات» أول صيحة نسائية تطلب تحرير المرأة وتناقش مشاكلها فى ذلك الحين، والتى نكتشف أن كثيرا من هذه المشاكل لم يزل راسخا فى التربة المصرية والعقل الذكورى مثل مشكلة «تعدد الزوجات» و«الطلاق» والزواج المبكر.. والحجاب.. إلخ.
وقد استطاعت الباحثة أن تحصل على «تقاريظ» عن الكتاب لتضمنها فى خاتمة الكتاب بعنوان «باب التقاريظ» (رغم أنها الطبعة الأولي) والتقاريظ التى سنعرض لها فى خاتمة حلقات الكتابة التزاما بما رأت صاحبة الكتاب أنها أتت من كبار رجال هذا الزمان المستنيرين، وقد حصلت عليها استنادا إلى موقع زوجها «شيخ العرب عبد الستار الباسل» رئيس قبيلة الرماح الليبية بالفيوم وشقيق حمد باشا الباسل، وإلى والدها حفنى بك ناصف».
فأتت التقاريظ من صاحب الفضيلة الشيخ عبدالكريم سليمان رئيس تفتيش المحاكم الشرعية وصاحب السعادة إسماعيل باشا صبري- وكيل نظارة الحقانية- سابقا والأستاذ الجليل عبد العزيز جاويش، وسعادة العالم أحمد بك زكى سكرتير ثانى مجلس النظار، والشيخ حسين والى الأستاذ فى الأزهر ومدرسة القضاء الشرعى، والنطاسى الفاضل شبلى شميل. وقد استغرقت هذه التقاريظ الصفحات من ١٤٧ حتى ١٧٦.
هذا بالإضافة إلى مقدمة تحليلية مستنيرة لمدير مجلة «الجريدة» أحمد لطفى السيد، أتت فى ست صفحات، وسوف نعرض لذلك كله حسب ما جاء فى ترتيب صفحات الكتاب، ولكن من هى باحثة البادية؟ إذ يتعين أن نتعرف على الكاتبة قبل أن نتعرف على الكتاب.
هل ملك حفنى ناصف (ديسمبر ١٨٨٦- اكتوبر ١٩١٨) ابنة حفنى بك ناصف رجل القانون والشاعر وأستاذ اللغة العربية، وأحد مؤسسى الجامعة المصرية، وهى شقيقة اثنين من مثقفى اليسار المصرى المرموقين فى عشرينيات القرن الماضى عصام الدين ومجد الدين حفنى ناصف. وهى أول فتاة مصرية تحصل على الشهادة الابتدائية عام ١٩٠٠ كما حصلت لاحقا على شهادة فى التعليم العالى وكانت واسعة الثقافة وتجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفى يوليو ١٩٠٧ تزوجت من شيخ العرب عبد الستار الباسل، وعاشت بعدها فى قصر الباسل مركز أطسا الفيوم، وأعجبت ببادية الفيوم حيث أحبت هدوء المكان وشاعريته فأسمت نفسها» «باحثة البادية»، وأسست عدة جمعيات، منها «الاتحاد النسائى التهذيبي» وقد ضم سيدات من مصر والبلاد العربية وبعض الأجنبيات المقيمات بمصر، كما أسست «جمعية التمريض» لتدريب فتيات على التمريض، ومارست نشاطا أدبيا وثقافيا وصحفيا مرموقا وذا نكهة تحررية وليبرالية، ورحلت فى أكتوبر ١٩١٨ وسنها ٣٢ عاما، ورثاها حافظ إبراهيم وخليل مطران والأديبة مى زيادة.
وقد امتلكت ملك حفنى ناصف شجاعة وجرأة نادرة بين نساء هذا العصر تدعمها ثقافة واسعة وإتقان رفيع المستوى للكتابة الصحفية، ومعرفة تعتبر موسوعية بين نساء هذا الزمان، ونحن إذ نتابع كتابها المبدع «النسائيات» سنلتزم كما وعدنا بترتيب الكتاب، فالبداية مقدمة بقلم أحمد لطفى السيد مدير تحرير «الجريدة»، فالكتاب كما عرفنا هو تجميع لمقالات عن تحرير المرأة، ومشكلاتها نشرت فى «الجريدة»، ونقرأ فى مقدمته «كان فى الشتاء الأسبق أن نظارة المعارف أحالت ناظرة المدرسة السنية للتأديب لشذوذها عن حدود قانون النظارة، فكتبت وقتئذ كلمة فى الجريدة استعطفت بها مجلس التأديب على تلك السيدة، وكان بعض ما استشفعت به أنها من الجنس اللطيف، شق هذا القول على سيدة فرنساوية سائحة فى مصر فأقبلت تعاتبنى على قلة الحيطة التى اتخذتها فى كلامي، وانبرت تقرر أن المرأة والرجل سيان فى الحقوق والواجبات، وأن الذى يستشفع للمرأة بجنسها يسيء إليها من حيث يريد الإحسان»، ويمضى أحمد لطفى السيد فى مقدمته «أن المرأة بجمالها محل للعطف، وهى بضعفها الجسدى أولى بالعطف، وهى بتواضع مركزها الاجتماعى أهل للعطف، وهكذا فمن أى ناحية نظرت إليها وحدتها تستحق الحنان والعطف» (صفحة ب) ثم يقول «فإذا كانت حقوق المرأة الطبيعية وحقوقها الشرعية يغمطها الرجال فلا يراعون فيها تقاليد الأسلاف، ولا يرقبون فيها أوامر الدين، فإن النتيجة اللازمة عن ذلك هى تعطيل نصف الإنسانية عما هو مطلوب منه، وهذا مع الأسف هو الذى كان» (صفحة ج) ونمضى مع مقدمة لطفى السيد، ونقرأ «غير أن مهضوم الحق مهما سهى عن السعى فى استرداده لا يعدم من نصراء الإنسانية خالى الغرض يناصره من حيث لا يحتسب. فإن النساء عندنا لم يكن ليدور فى خلدهن أن المرحوم قاسم بك أمين يقوم بالدفاع عنهن دفاعا أغضب منه كثير من الناس، بل أغضب منه بعض النساء اللواتى لا يردن الخروج من الحظيرة الصناعية التى أقامها لهن بعض رجال البأس لا رجال العلم، قام المرحوم قاسم بك بالدعوة إلى تربية المرأة على أصول التربية النافعة بشجاعة نادرة المثال، واقتفى أثره فى ذلك بعض الكتاب حتى انتبه هذا الجنس اللطيف وتولى بعض أعضائه الدفاع عن ذاته، وأول من سارت منهن فى هذا الطريق «باحثة البادية» وهى أولهن، لأنها أخذت تبحث فى نسائياتها بحث الجاد الذى يعلق على بحثه نتائج كبرى لصلاح المرأة، بل لصلاح الإنسانية.
وأخذت تكتب فى الدفاع عن حقوق المرأة، وتخطب فيما تراه واجبا لإصلاح أحوال المرأة، فكان هذا الكتاب الذى نضع له هذه المقدمة هو مجموع مقالاتها وخطبها. (صفحة د) ثم يقول عن تقييم أسلوب كتابه «باحثة البادية» «إنها أفضل سيدة قرأنا كتاباتها فى عصرنا الحاضر، بل هى تعطينا فى كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات، وليس نبوغها فى الكتابة مصادفة، فهى من بيت علم وأدب انتقل إليها من أبيها حفنى بك ناصف.
وأملنا أن تكون ملك حفنى ناصف القدوة الحسنة للسيدات المصريات» آمين. وبعد هذه المقدمة نبدأ فى استعراض نسائيات باحثة البادية.