قبل أربع سنوات كان هناك مطعم فى وسط المدينة يملكه شباب سورى، كنا نتناول طعامنا على الرصيف المقابل لباب المطعم الذى لم يكن قد اكتملت تجهيزاته بعد، لم تكن حينها المطاعم السورية قد انتشرت بشكل كبير كما هى الآن، كنا نذهب عطشى لنوع جديد من الطعام، محملين بشهرة المطبخ السورى، وبالفعل كان الطعام جميلًا.
وفى واحدة من المرات وأثناء انتظارنا الطعام، قدم الشاب صاحب المكان إلى منضدتنا، ومعه ورقة صغيرة، بها أحجية، قام بشرحها وأخبرنا إن قمنا بحلها سيكون حساب المنضدة كله على حساب المحل، استمتعنا بالبحث عن الحل وانشغلنا عن الجوع والانتظار، بالطبع لم نحلها ودفعنا الحساب، لكننا كنا فرحين، بطعام شهى ومعاملة راقية وباللهجة السورية المحببة إلينا، هذا غير أنه فى مساء الخميس يأتى مطرب بعوده، ويأخذ ركنًا من الرصيف ويبدأ فى الغناء، كان صوته شجيًا جميلًا، ثم أغلق المطعم دون أن نعرف السبب.
اتفق الجميع على أن ما يقدمه السوريون يفوق كل ما نلقاه هنا من معاملة من أصحاب المقاهى والمطاعم، حتى المقهى السورى الذى فتح أبوابه لفترة فى المنطقة نفسها، أيضًا تم غلقه إلى أن امتلكه مصريون ففقد بريقه ونكهته، ومذاق مشروباته بعدما تركوه.
إنهم مهرة فى اكتساب الزبون، يمتلكون لسانًا يأسرك بعد لحظات قليلة من مجرد جلوسك بالمكان، تشعر معهم بأنك صاحب بيت ولست زبونًا، ارتفاع مستوى الخدمة وجودة المنتج هما ما نحتاجه حقًا.
ماذا نقدم نحن من كل ذلك؟ القليل جدًا.
أذكر أننى لم أدخل مطعمًا يقدم واحدة من أشهى وأطعم المأكولات بالنسبة إلىّ، لأننى دخلته وأصدقاء لى ذات يوم وكان مزدحمًا، وجدنا منضدة خالية، فإذا بهم يطلبون منا مغادرتها والانتظار فى طابور حتى يخلو مكان، كنا سنفعلها لو لم يتحدثوا بتلك الطريقة التى أشعرتنا بالإهانة، فلم أدخل المطعم مرة أخرى، رغم أن رائحة الطعام الشهية كلما مررت به تلعب برأسى وتجعلنى أفكر فى الدخول، فلا أحد يصنع تلك الأكلة مثلهم، كلما طلبتها فى مكان لا يكون لها نفس مذاقهم، لكن المثل البلدى يقول (لاقينى ولا تغدينى)، السوريون يعرفون جيدا كيف يلاقونك، وكيف يرحبون بك، بينما نحن نعجز عن أن نجد من يلاقينا فما بالك بمن يغدينا؟.
بِتُّ أشعر بالامتنان لمن يقدم لى خدمة هى فى الأصل حقى المكتسب، سائق تاكسى يقوم بتشغيل العداد، نادل يستقبلنى ببشاشة محاولًا تزيين ما لديه، بائعة لا تقابلنى بوجه متجهم أو تعلن أنها على وشك الإغلاق، وأننى جئت لأعطلها، أو واحدة تظن أننى جئت محلها الراقى خطأ فتذكرنى بأين أنا؟!
الكثير منا على وسائل التواصل الاجتماعى بدأ يعلن عن استيائه من الخدمات المصرية، مقابل ما يلقونه من معاملة من الأشقاء السوريين الذين أثبتوا لنا جميعًا بما لا يدع مجالًا للشك أن هناك الأفضل، وأن ما يفعله المصريون على سبيل أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، هو مجرد وهم.
لقد تحملنى بائع سورى أنا المترددة، والتى أنتقى بصعوبة شديدة أى نوع من الملابس بصبر شديد، وجاء لى بالكثير من القطع التى جربتها حتى خجلت من نفسى، لأننى لم أشتر منه ولم ينقذنى من الخجل، إلا أننى لم أجد مقاسى فيما استقررت عليه أخيرًا، وخرجت مصحوبة بابتسامته وكلماته الممتنة لمجيئى للمحل، وتذكرت على الفور بائعاتنا اللائى تتغير وجوههن لو قِسْت أكثر من قطعة، أو لم أجد المقاس، للأمانة لسن كلهن كذلك لكن الغالبية منهن.
هل الضغوط التى نعانيها هى السبب؟ هل أشقاؤنا فى ذلك البلد السبب؟ هل هى ثقافة الزحام؟ هل....؟
المزيد من الأسئلة تطرح نفسها علينا، والإجابة الوحيدة أننا لم نتعلم فن البيع والشراء، فن المعاملة، نحن بحاجة للمزيد من العلم فى كل شىء، لتعديلات كبيرة فى السلوك العام، لدفعنا للإحساس بوجودنا وأننا لسنا كمًا مهملًا، هذا الشعور الذى تعمق فينا بالأمر وبالتعمد، للإحساس بأن ما نعمله هو الأحب لدينا.
إن الاهتمام بالنظافة أمر شخصى قبل أن يكون مطلبًا عامًا، إن البحث عن الأجوَد هو الطبيعى وليس حقًا أصيلًا لأصحاب المال فقط ومن يملك.