الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مسئولية الكلمة وموسى صبري وإحسان عبدالقدوس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أستأذنكم أن نعود إلى الوراء عدة سنوات، وبالتحديد ٦٦ عامًا.. تعالوا نذهب معًا إلى عام ١٩٥١، ونطالع فقرات من مقال مهم، كتبه يوم ٨ يوليو الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، فى مجلة «روزاليوسف»، ويتناول فيه ظاهرة الفاشلين الذين تُفتَح لهم الأبواب على مصراعيها ليتصدروا المشهد الرسمى وغير الرسمى، أما الناجحون فويلٌ لهم، إذ يكتب إحسان بالنص: «ويلٌ للحر الأبى الذى يخشى ضميره، ويخشى الله فى وطنه.. ويل للكفء الذى ينظر للأمور نظرة جدية ويعمل متعمدًا النجاح.. ويل له، فالأبواب تُغلق من ورائه ومن أمامه، والجبروت الظالم يطارده أينما حل، والتهم المفتراة تلاحقه فى كل يوم.. اطردوا الفاشلين.. جربوا صنفًا آخر من الرجال غير هذا الصنف الذى أثبت فشله، وارحموا مصر من الفشل».
كم أتمنى أن يعود كثيرون إلى النص الكامل لذلك المقال، فرغم هجومه الحاد على كل الفاشلين الذين يتناولهم، فإن القيمة الحقيقية له تكمن فى كونه لم يستخدم ألفاظًا خارجة ولم ينعت الذين يهاجهم بأى صفة تشينهم وسط أهلهم ومعارفهم، والتزم بكل الأصول الأخلاقية والمهنية التى تعارف عليها المجتمع من قبل الزمان بزمان.
كانت صحافتنا تزخر بمعارك صحفية، لا أول لها ولا آخر، وكان الرأى العام يتابعها بشغف واهتمام، ويطالع كم الرقى فى الخلاف والترفع عن الصغائر، وقد لا تعلم الأجيال الحالية شيئًا عن تلك المعركة الحامية بين عباس محمود العقاد وبين مصطفى صادق الرافعى.. طلقات من النقد الحاد وقذائف مرتدة أكثر حدةً، لكنك لا تطالع إلا قطعًا أدبية من «الهجاء» مثله مثل تراثٍ كثير فى أدبنا العربى.
وحتى لا نظل بعيدًا، تعالوا نقرب المسافات ونصل إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضى.. يتذكر أمثالى الهجوم الذى شنه موسى صبرى، رئيس تحرير جريدة «الأخبار» آنذاك، بشكل يومى ولمدة طويلة، على حزب التجمع وقائده خالد محيى الدين، فقد تفرغ موسى صبرى، لأمرين اثنين لا ثالث لهما: صب جام غضبه على خالد محيى الدين وحزبه ورجاله، والدفاع عن الرئيس السادات بكل ما يستطيع من حجج.
قد يتساءل البعض عن علاقة ذلك بما أريد الوصول إليه، فأجيب سريعًا: كنت أتعجب من العلاقة التى يسودها كل الاحترام على المستوى الشخصى بين «صبرى» و«محيى الدين»، وذات مرة حضر موسى صبرى إلى مقر الحزب، تلبية لدعوة من خالد محيى الدين، للمشاركة فى عيد ميلاد التجمع، وبمجرد دخوله لفت أنظار الجميع، خاصةً أنه جاء مرتديًا بدلة بيضاء كانت بارزة وسط كل البدل القاتمة، وحاول بعض الشباب أن «يغلسوا» عليه، لكن كثيرًا من حكماء الحزب، كانوا حاسمين وأكدوا أن الخلاف فى الرأى لا يمنعنا من احترام الآخرين.
فى اليوم التالى، سألت الزعيم خالد محيى الدين، عن تقبله لاستقبال موسى صبرى واحتضانه بمجرد وصوله وتبادل النكات معه، وهو الذى تخصص فى «حرق دمنا»؟ وبهدوئه المعهود، أتذكر رد «محيى الدين»: «الخلاف فى الرأى طبيعة الحياة وطالما قبلت العمل العام لا بد أن تتقبل أى نقد.. واسأل نفسك هل هو تناول حاجة شخصية تسيىء لى؟.. هو بيهاجمنا من منطلقات سياسية وإحنا بنرد عليه برضه من منطلقات سياسية.. مستحيل الكون كله يكون على رأى واحد، وطالما لا يسف فى هجومه فكلامه مجرد خلاف فى الرأى».. وكان ذلك درسًا لا أنساه.
نعم.. تربينا على مبادئ مهنية واضحة وثابتة وراسخة كالجبال.. تعلمنا ألا ننجر وراء الفضائح لمجرد زيادة التوزيع.. آمنا إيمانًا مطلقًا بألا ندخل معارك من أى نوع مع أى مطبوعة أخرى إلا فى حدود الرد الموضوعى المفحم.. وضعنا نصب أعيننا دائمًا احترام خصوصية الآخرين وعدم الخوض فى الأعراض.
هكذا رسخ الكبار فى داخلنا، جيلًا وراء جيل، أن الكلمة مسئولية، فلا نجرى وراء وهم السبق الذى يسىء لآخرين ويخلق الفتنة ويدمر الأخلاق، انطلاقًا من حكمة خالدة: «ليس كل ما يُعرف يقال، وليس كل ما يُقال حضر أوانه، وليس كل ما حضر أوانه حضر رجاله».
أجيال متعددة عاشت، ولا تزال، مرفوعة الرأس شامخة كالطود، لأنها احترمت المهنة وقدرت ثوابت المجتمع، ورفضت أن تكون كعرائس الماريونت تحركها أيدى عابثة بالبلاد ولا يهمها أى تداعيات خطيرة على العباد.. أجيال اختارت أن تظل محترمة فى عملها، مستقلة فى قرارها.. لا سلطان عليها إلا ضميرها بعيدًا عن نفاق مدمر وتدنٍ لا مثيل له.
هل أدلكم على رأى سديد؟.. بدأنا بإحسان عبدالقدوس، فليكن مسك الختام به أيضًا، ونتذكر قوله: «الصحفى الذى يحترم نفسه يجب ألا يكون سمسارًا، ويجب أن يقصر اتصالاته بالمسئولين على واجبات مهنته، ويجب أن يكون ناقدًا لا متملقًا».. رحم الله إحسان عبدالقدوس.. وسلامًا على الصابرين.