تقتحم الشرطة المنزل، تتفقد الغرف، تجده قابعا على مكتبه من فرط التعب، تجذبه فيفزع، يتجمد مداده ويسيل.. ما الخطب؟
يقول له الضابط تحرك معنا.. يسأل إلى أين؟.. لا إجابة.. وحده الصمت وغطاء الرأس الأسود.
في غرفة مظلمة صلبوه.. يأتيه صوت السؤال من كل مكان لا ينتظر الإجابة وكأنه لا يحمل علامة استفهام.
ما ميولك.. إلى أي حزب أو جماعة تنتمي.. من يمولك ويساندك.. هل تكره الحكومة.. هل تتعاون مع الإخوان.. هل أنت شيوعي.. هل تدعو لثورة.. هل تكره المنتخب.. هل أنت متعود على ترك لحيتك.. كم عدد شعر إبطك.. ولماذا لا تطلق زوجتك.. لماذا تشاجرت مع مدرس التاريخ في الصف السادس الابتدائي.. لماذا ترفض التطبيع وتكتب هجاء في إسرائيل.. لماذا تصلي العيد ومن بعدها تشرب الأرجيلة.. ألف لماذا وعددهم لما ومثليهما كيف ولا فرصة للإجابة.. مادام قد نجا من الهلاك فتحول أوراقه للمحكمة.
تتناقل الصحف الخبر.. اهتمام كبير في وسائل الإعلام.. كل اللافتات أخرجت بيان.. حقوق الإنسان واتحاد الكتاب والمعنيين بالقلم والنقابات.. زخم في البيانات والمستفيد الوحيد بائع البطاطا.. الناس نسيت أمريكا وإسرائيل وداعش والوباء والطاعون والأسعار.. ونظر الجميع نحو فم الحاجب.. القضية رقم 7000 محاكمة قلم.
يقف خلف القضبان شاحبا.. رث المنظر.. لا يرتدي غطاء رأسه.
يتلو القاضي صحيفة الاتهام التي تماثل ما قيل في الغرفة الظلماء عدا أنه زاد أنت متهم بالخوض في الأعراض وقذف المحصنات.. أنت متهم باسر الكلمات وإرغامها على صناعة المتفجرات.. أنت متهم بأنه ليس لك اتجاه ولم يتم تحديد هويتك واتضح من التحريات أنك تهوى الحرية وتعشق بهية ودائم المجادلة مع من يتزوجها.. وتتشاجر مع من لا يصنها.
ونسيت أنه يجب عليك لتحتفظ بمدادك أن لا تخرج خارج السطر تضع نقطة حينما يقال لك وتنهي الجملة.. الخ.
القاضي: هل لديك أقوال أم أنك تعترف؟
القلم: نعم أعترف.
القاضي: الحكم بعد المداولة.
بناء على ما تقدم من أدلة صدر الحكم بقصف سن القلم وإفراغ أنبوله حتى يكون عبرة لمن يتعدى حدوده.
في غير ضجر يقول: يا سيدي القاضي أما وقد أصدرت حكمك فقد انتهت قضية الأوراق لكن قضية الوطن مفتوحة فاسمعني.
يا سيدي القاضي، منذ البدء وجدت نفسي في مقلمة تحكمها إطارات معينة، غير مسموح لي بمغادرتها، أكتب تحت وطأة يد تتحكم في مصيري.. تارة توقيعات مزورة وتارة أخبار ملفقة وتارة تدليس وتارة تهجيص.. وتارة تفليس وظللت هكذا حتى كرهت نفسي.. إلا أن جاءتني أياد تكتب للوطن.. للناس.. لا تنازع على حكم وليس لها مصلحة مع حزب.. وهكذا عشت معها لحظات الصدق فأحببتها ولحظات الكذب فمقتها.. كنت كما إنسان يصيب ويخطئ، يغضب ويعتذر لكن وجهته دائما كانت الوطن.. حتى في لحظات الصفاء كنت أكتب عن النساء.. أعلم الشباب أن الحب غير البغاء، كنت لهم لحظة العقل قبل أن يضغطوا على الزناد.. جعلتهم يرمونكم بالكلمات بدلا من الرصاص.. جعلتهم يعودون إلى الحوار.. لولاي لبات منهم عملاء وجواسيس.. لولاي لما صبر الناس.. والآن أنتم تهدمون جداركم المنيع وحصنكم الأخير.. لظنكم أنه مجرد قلم والأقلام كثير.. تذكروا يا سادة أن لكل زمن نبي.. والأقلام منها موسى ومنها السامري فلا تخلطوا الأمور وتقتلوا موسى.
يشرد القاضي في كلمات القلم.. ينظر لمعاونيه.. يحادث نفسه.. هل يؤجل القضية ويلغي الحكم؟ هل ينطق ببراءته بعدما سمع حجته واقتنع بها.
صمت طويلا.. انتظر الجميع أن ينبس القاضي.. مرت الدقائق.. عيناه شاخصتان.. يهزه مساعده فلا يجيب.. يهزه فيسقط على الطاولة.. اختار القاضي الحل الأسهل مات.. هاجت وماجت القاعة.. علا الصوت.. مدد يا قلم مدد.. الناس نبني لك مقاما.. أجاب لا فقط امنحوني مقالا حرا أحادث فيه الوطن.