السبت 05 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

الشعراء الصعاليك.. رحلة "الأدب" تنتهي بـ"الجزارة"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للشعر في مصر تاريخ يبدأ من نهايات القرن التاسع عشر، على يد محمود سامي البارودي ومدرسته «الإحياء والبعث»، التي ضمت عددًا من قامات الشعر العربي، يأتي على رأسهم أحمد شوقي، غير أن تاريخ الشعر في مصر لم ينظر إلى ما قبل البارودي ومدرسته، فيعتبر النقاد الأكاديميون أو على حسب ما يدرس في المدارس الحكومية المصرية أن ما قبل أشعار «الأحياء» يعد أدبا ركيكا لا يرقى لأن يصبح إبداعا، وما فعلته الإحياء والبعث أنهم اعتمدوا على إعادة إحياء القصيدة العربية في العصر الذهبي، وهو عصر العباسيين حيث البحتري وأبوتمام والمتنبي؛ وأعادوا طرح هذا الثقل اللغوي من جديد، وبالتالي تحذف الفترة التاريخية ما بين شعراء العصر العباسي الثاني وبين مدرسة الإحياء والبعث.
لكن فى هذه الفترة المهملة والمحذوفة من تاريخ الشعر، ظهر في مصر نوع جديد من الشعر، شعر يعبر عن مأساة اجتماعية، ويبعد كثيرا عن مدح الحكام والتملق عموما، فمع بداية حقبة المماليك، وبعدها العثمانين، انتشرت في القاهرة أجناس من كل حدب وصوب شراكسة وبرامكة وأتراك وألبان، فأصبح الحكام ومعظمهم من أصول غير عربية يجهلون الشعر وأسلوبه، فلم يجد الشعراء من ينفق عليهم فتركوا حرفة الشعر، وامتهنوا مهن معتادة كالنجارة والحدادة والجزارة وغيرها، لكنهم استمروا في كتابة الشعر على سبيل الهواية، لا على سبيل الحرفة، وسموا بالشعراء الصعاليك واختلف أسلوبهم فتركوا القوالب القديمة، واستخدموا شعر المقطوعات الصغيرة شيء يشبه فن الواو في صعيد مصر أو المربعات، فكان الشاعر يضع نصب عينيه المتلقِي الجاهل لقلة الثقافة، حتى ولو كان المتلقِي وزيرًا، ولذا شاع في شعرهم السهولة والوضوح وامتزاج العامية بالفصحى، وانتشرت الصنعة والمبالغة والتكلف، وهي موجودة في العصر العباسي ولكن أدباء هذا العصر بالغوا فيها لمحاولة مجاراة الأقدمين، فاستخدموا كل المحسنات البديعية والصنعة البيانية، وصارت الألفاظ قريبةً من العامة.
عدد كبير من شعراء هذا العصر اتجهوا للجزارة، وكان من بينهم الشاعر أبو الحسيْنِ الجزار؛ الذي ذاع صيته في النصف الثانِي من القرن السابع للهجرة يعبر بشعره عن كافة المواقف التي يلقاها بشيء يشبه الكوميديا السوداء، كيف تبدل حاله من شاعر يأخذ صرر الدنانير من بلاط الملوك إلى جزار حاله أقل بكثير من قبل؛ وكيف تغير طائفة المتلقين من أشخاص عالمين باللغة وفنونها إلى إناس لا تفهم العربية من الأساس، فله قصيدة يسخر فيها من تركِيٍ لا يفهمُ العربيَةَ طلب من الجزار مدحه، مجسدًا فيها الهوة الثقافيةَ بينه وبين ذلك التركي؛ يقول فيها: «وكم قابلـتُ تركيًا بِمدحِـي/ فكادَ لِما أُحاولُ منـهُ يَحنقْ/ ويلطِمُنِى إذا ما قلْتُ (ألطِنْ)/ ويرمقنِى إذا ما قلْتُ (يرمِقْ)/ وتسقطُ حُـرمتِى أبَدًا لديْـهِ/ فلو أننيْ عطسْتُ لقالَ «يَمشِقْ»؛ فاستخدم فيها كلمات تركية لبيان مدى الهوة الثقافية بين الطرفين، فليس لأبياته قيمة فنية سوى تجسيد ما كان يحصل بين الطبقة الحاكمة والمحكومةِ.