الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أحمد شلبي.. المجدد الأصيل

أحمد شلبي
أحمد شلبي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في لغتنا العربية كثير من الشعر، وفي عصرنا الحديث كثرة لا يحصيها عدٌّ من الشعراء؛ ولكن يبقى قليلا جدا ما يستحق العناية من الشعر، ويبقى من يجدر بالإلماح إليه من الشعراء أقل مما يتخيل متخيلٌ، فأنّى لمتذوق بشعر مفعم باللذة الروحية، شعرٍ يدع قارئه على غير ما وجده ،شعر يُعقِّب في روحه ألما نبيلا أو أملا متغيّا ،،شعر يأخذك إلى عالم من التبتُّل الروحي ،شعر يحملك إلى عوالمَ أخرى يتمناها كل مريد،،ثم أنّى لناقد جاد بشاعر حقيقي ،شاعر أضنتْه عبقريته في الغوص وراء جوهر الحياة ،شاعر يسكنك ، يستعمر ذاتك ،يلج برفق إلى دُناك الخاصة ،شاعر يستنفر إحساسَك ،ويستفز نَجاواك لتلقى صدى تعابيره في كل ما حولك ،شاعر يحيا فيك فنُّه فستمد من حياة فنِّه فيك حيوات تُغتبط عليها ،،وأقول : إذا وقعت على شعر من ذلك النوع ، وشاعر من هذا الفصيل ، فقد ظفرت بأكثر مما تتمنى . وشاعرُنا ـ وقد عايشتُ شعره أعواما ـ من أولئك الشعراء الذين يقتادونك طوعا إلى عوالمهم الخاصة ،أو يدلفون دون أن يقرعوا بابَك إلى عالمك الخاص،فلا تملك منهم فكاكا ، شاعرٌ يعطيك مع كل قراءة لشعره فوق ما تريد ، كلما تقرأ له يعطيك خيط نور ،فإذا استزدت زادك ، وإذا عاودْتَ رفَدك بما تشتهى : فلا بك تكتفي ولا به يضن ،،ومثلُ هؤلاء هم من يُقرأ لهم ، ويُسعى إليهم ،ومثل هؤلاء هم من يرفعُ الناقدُ من شأن نفسه بأن يخطَّ عنهم مقالا أو يعد في شعرهم دراسة أو أن يُقدِّم إلى عمل لهم جديد , وأقطع بأنني كذلك ، فلقد عايشتُ تبتلاتِه في محراب فنه لحظة لحظة , وكتبت عنه ما أرفع به من شأن نفسي ونقدي، فليس أيُّ شعر يروقني ، ولا أي شاعر يقنعني. 
أما عن "حضرة الغائب " وهو عنوان مُلبِس لا مراء ،، فمن يا ترى يكون ذلك الغائب؟ وهل رمى شلبي من وراء ذلك العنوان إلى حمل قارئ ديوانه إلى البحث عنه في ثنايا قصائده؟؟ وهل إذا بحث سيلتقيه ؟؟ أم أنه رامٍ إكلالَ ذهنِ ذلك القارئ في بحث لا طائل من ورائه ؟؟ أم لا هذا ولا ذاك وإنما هو مجرد انفتاح مقصود على تساؤلات وافتراضات عديدة تحمل القارئ معها إلى الحفر في طبقات نصوص الديوان عن غائب لن يجده ؟؟ ثم ما عساه أن يكون ذلك الغائب ؟؟ هل هذا العنوان هادٍ إلى غاية يتغاياها شلبي أم أنه مجرد استنفار مقصود ينفتح قارئُ نصوص الديوان من ورائه على ما يتواءم ومَرامَه ؟ وأخيرا ،، إذا كان ذلك الغائب موجودا بالفعل فى ثنايا القصائد فمن أيِّ مكوِّنٍ من مكونات معمار تلك القصائد سيخلص مَن أجهدَ نفسه في قراءة الديوان إليه؟؟ لعلها عبقرية الإيماض ،، أو لعل شلبي في حضرة غائب لا نعلمه أو يبحث عن غائب لا يجده،، وليس أدل على تلك الحيرة الماورائية والتي تبدت بجلاء في عنوان الديوان، من آلية الإهداء ، فلقد جاء الإهداء إلى (...........)؟ يقينا هو يعني ذلك الغائب إذا شلبي يتدجَى سلفا وراء مجهول لا نعِيه،، ويتلفع بيفاع لا يستبين هو في ذاته ، ولا يستبان ما وراءه وهل جاءت علامة الاستفهام بعد التغييب المتعمَّد شارةً على سؤال له إجابة ؟ أم دليلا على محاولة للفهم ؟؟ وهل إخفاء المُهدَى إليه فراغٌ موشٍ بأشياءَ أم مستثير لأشياءَ ؟؟ فلتكنْ إذن مغامرةَ استبانةِ المرامي ؟؟ واستنطاقِ المقاصد. 
بدءا  تعمَّدَ شلبي أن يطل علينا غائبُه من ثلاثِ شُرفات ، وأن تصل إلينا أمواهُ إبداعه عبر ثلاثة روافد ، تناثرت قطراتُها على أوراق مبعثرة وأخرى ممزقة وثالثة أخيرة ، يجمع بينها نظامٌ معقود على لغة دقيقة منتقاة بعناية شديدة ، وصورٍ موشيةٍ بموهبته الفذة ، مسفرةٍ عن بكارتها ومختالةٍ بحسنها ، ومعانٍ رائعةٍ تأسر لُبَّ قارئها بجمال سحرها , وتجاربَ لها طرافةٌ خاصة ، فضلا عن إيقاع طيِّع يُماهي حركية التجلي والخفاء ويتماوج مع وتيرة الانفعال والهدوء ، حتى لكأنه الروح ساريةً في الديوان يأسر به شلبي ولا يؤسَرُ له ،، وما بين أوراق شلبي تنداح تعابيره الناطقة بأنه لم يخرج من عباءة أحد ، وأنه ، وإن كان عموديَّ المنزع ، إلا أنه حادٌّ في اختلافه ومغايرته لكل مألوف ، مجدِّدٌ بوعي ، مدللٌ بما لا يدع مجالا لمُستريب أن الموهبة الأصيلة قادرة لا مراء ، على ترك بصمتها ، وأن العبرة بالمضمون لا بمجرد القالب ، فما أوراق عمره المبعثرة سوى :- 

- طرقٌ تنتهي وأخرى تطولُ
كلُّها قد كبت عليها الخيولُ

- رحلةٌ يعثرُ المسافرُ فيها
بيـْد أن الذي تبقى قليلُ

- ما الذي يجمع الشطوطَ ببحرٍ
هل له عابرٌ ؟؟ وكيف السبيل ؟؟

إنه ليلُ المُبْحر في عالم الذكريات الضائعة المرتجاة، إنه الرحيل عبر بيد لا نهاية لها ، وقد بدا نضوب الزيت في القنديل فوجب النوم الطويل الذي لا نهوض بعده،، إنه البحث المضني عن ذلك الغائب المطل عبر شُرفاتِ ديوانه في تحدٍّ سافر لذائقة المسترفد الباحث عن مكمن المتعة في إبداع شلبي وما ذلك الغائب إلا :- 

- طائفٌ قد شفَّ جوهرُه
صار منه جوهري عَرَضَا

- غائبٌ ،، والحُجْبُ تُظهره
كلما خلتُ اخْتفى – عَرَضَا

- ليس لي من موعد معه
ربما قد لاح لي – عًرًضًا

فما غائب شلبي سوى عرَضٍ ، ولكلِّ عرضٍ من أعراض شلبي غرضٌ ، لكنه غرض فني يحملك به إلى حيث يريد لك من المتعة مومئا من وراء سجف إبداعه إلى آماله المبعثرة ، وغائبه المتحكم الفارض لما يشاء , وعلى كل فقد لملم شلبي ما بعثر من أحاسيس قراء جزء ديوانه الأول حول الإقرار بقدرته على الإبداع ، ولعلي أحيلك إلى : " لكنها ........ لم تأتِه " أو إلى : " ويأتيك غيرُها " لتدرك آلية البعثرة واللملمة الكاشفتين عن تحكم شاعر حقيقي في إبداعه الناطق،، 
أما رافد أوراقه الممزقة ، ولعله الأشد إيجاعا وإمتاعا ، فمعظمُه رقص على رماد وطن وغناء على طلل حضارة في مفارقة عجيبة ، تحمل أسى مُمِضًّا على جيل لم يدرك قيمة الوطن ، أو فصيل لا يعترف من أساسه بذلك الوطن ، إن اليد الحارقة الآثمة لا تدري ما :
بوحُ المقاهي .. وموالُ الحقول .. وضحكة
السواقي .. الصبايا .. البهجةُ .. السحرُ
لا لشيء ، وإنما لأن قلب صاحبها قلبٌ بليد ، ومصر الروح والتاريخ والنهر براء من مثله ، فمصرُ ـ حتى وإن سُرقت ليلا ـ فإنها حتما سوف تستعاد مع طلوع فجر جديد، وإن كانت الغربان قد سرقت الأيك أو أن الجزع قد نخره السوس المتمثل في عصابة مزقت الوطن ، إلا أن يدا لابد أن تمتد لتعيد لنا ذلك الوطن وتعيدَنا إليه ، إنها بابة جديدة من خيال الظل تقف مسفرة عن موقف الشاعر الواعي بما يحاك لوطنه , ولا يُمَزقٌ وطنٌ فيه مبدعون على مثل هذه الدرجة من الوعي، وإن شاعرا ينتظر وعد هند، لا يُخشى عليه ، فبالأمل الدائم تحيا القلوب الوالهة 
قالت الريح .. وقد رقت له
قد تفي بالوعد هندٌ
قال :
قدْ

إذا نحن على موعد مع الأمل ، وهنا ليس لنا إلا الغناء وقد :

- آن للشعر أن يثور عليهم
كلَّ ليلٍ .. وأن يُثير الشجونا

- آن للشمس أن تبوحَ بصُبح
يفضحُ القاتلَ الطريد الخؤونا

الجميل على الرغم من اختلاف عناوين أقسام الديوان ، أن الاتساق العضوي الرابط متحقَّقٌ في هيكلٍ شعري شديد التماسك ، وصورُ الديوان تبدو متماسكة متآزرة ، متنامية في انتماء ملحوظ إلى شجرة قصيد الديوان كله ، وفى خطوة من الشاعر المبدع أحمد شلبي إلى لملمة أوراقه نجده ينثر مداد إبداعه على أوراقه الأخيرة مستهلا بذكريات موجعة عن ليلٍ سكَنَ فلم يعد به حراك :

- قد سكن الليلُ وسمارُه
فلم يعد به صدىٌ أو نداءْ

- غاب أبى .. وانطفأت شمعةٌ
كانت تلمُّّ شملنا في المساءْ

- ارتحل الفجرُ وأنفاسُه
فانفجرَ الطير معي في البكاءْ


شاعرُنا يرسم بكلماته ما شاء ، ويقترب بنا من الألم الإنساني النبيل غائصا وراء هموم عصره، راصدا بوعي الفنان واقعا عشناه وعانينا مراراتَه ، ومصطدما بشراسة بتلك الأقنعة الكاذبة التي تنكشف , تمزقُها تباعا وجوهُ الحقيقة الكاشفة ، فتبدو قصائده وإبداعاته " كأنها هي " حياتنا التي نعركها وتعركنا ، فنفر من " تيه إلى تيه " . 

نقول : لعل أهم ما يميز شعر هذا الديوان قدرة شلبي الفائقة على استخدام المُعطَى التراثي ، واستدعاء الشخصيات التراثية ، ووحدته في تنويع صوره التعبيرية ، وتميزه في استرفاد البنية الحوارية ليخلص من ورائها إلى ما يشاء ، وهو منحى يكاد يكون شلبي نسيجَ وحدِه فيه ، ولقد تدفقت حركة قصائده تباعا فما التوى به الدرب ، ولا ندى ـ ببصيرته النافذة ـ عن طريقه التي رسمها لنفسه والتي كان وما زال قوامُها لديه رهافةَ الإحساس وعمقَ التجربة وصدقَها ، واستصفاءَ اللغة ، ومَتْحَه الدائمَ أقباسا من الوهج الشعري المشتعل في مخيلته . 
وأقول أخيرا: إن حضرة الغائب استكمال لمسيرة من الإبداع لشاعر كبير وصوت متميز يحملنا إلى درجة يجمح بها تظنينا إلى أن تصبح أمنية في المزيد من مبدع ـ ظني به غير هائب ـ أنه رائد شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا .