تشير «نكبة» البرامكة إلى ما وقع لهم على يد الخليفة العباسى هارون الرشيد من قتل وتشريد، ومصادرة أموال، وقد كانوا وزراء الدولة وأصحاب الأمر والسلطان. لقد حاول البرامكة زرع الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون والتدخل فى إدارة الخليفة هارون الرشيد لأمور الدولة، علمًا بأن الخليفة كان عادلًا ومنصفًا.
وكانت للبرامكة مكانة عالية فى الدولة العباسية؛ فقد كان يحيى بن خالد البرمكى مسئولًا عن تربية الرشيد، أما زوجته فقد أرضعت الخليفة هارون الرشيد، وقد قام يحيى بن خالد على أمر وزارة الرشيد، وقد فوضه الرشيد فى كل الأمور. أما الفضل بن يحيى بن خالد فقد كان أخًا للرشيد من الرضاعة ووكله على تربية ابنه الأمين.
وبالرغم من عدم معارضة البرامكة فى مسألة ولاية عهد الرشيد لابنه الأمين وسعيهم- فى أول الأمر- إلى تزكية هذا الاختيار وتزيينه للرشيد ودفعهم له إلى إتمامه؛ فإنهم ما لبثوا أن شعروا بأنهم أساءوا الاختيار، وخصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا، وبعد ظهور نفوذ أمه «زبيدة»، التى أصبحت تنقم على البرامكة وما صاروا إليه من النفوذ والسلطان فى بلاط الخليفة.
عندئذ بدأ البرامكة يعيدون النظر فى مسألة ولاية العهد، فاستخدموا نفوذهم، واستغلوا قربهم من الرشيد ومنزلتهم عنده فى إيجاد منافس للأمين وأمه زبيدة، ووجدوا بغيتهم فى شخص «المأمون» الأخ الأكبر، وبخاصة أن أمه فارسية. واستطاع البرامكة أن يجعلوا الرشيد يعقد البيعة لولده «عبدالله المأمون»، على أن تكون ولاية العهد له من بعد أخيه الأمين.
وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديدًا، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات فى إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبدادهم بالأمر دونه، والمبالغة فى إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم فى أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص منهم ووضع حد لنفوذهم. ولم يكن ذلك بالأمر الهين أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة فى كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يلحق بهم الضربة القاضية.
وفى ليلة السبت (أول صفر ١٨٧هـ - ٢٩ من يناير ٨٠٣م)، أمر الخليفة رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم. وفى ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبددت سطوة تلك الأسرة التى انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التى اصطُلح على تسميتها فى التاريخ بـ«نكبة البرامكة».
وكان لتلك النكبة أكبر الأثر فى إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وهو ما يتقاطع مع ما فعله الإخوان ضد الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣. لقد صور البرامكة الرشيد بعد نكبتهم فى صورة الحاكم الماجن المستهتر الذى لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق فى مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلى فى كل يوم مائة ركعة.
ويوم الإثنين الماضى ١٤ أغسطس ٢٠١٧، حلت الذكرى الرابعة لنكبة الإخوان، ففى ذلك اليوم قامت قوات الشرطة بمساندة ومؤازرة تامة وتفويض من الشعب المصرى الذى ثار على الإخوان فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ بفض اعتصاميْ «رابعة والنهضة»، وهو الاعتصام الذى أنهت به جماعة الإخوان تاريخها الذى كان يضرب بجذوره إلى العام ١٩٢٨، حينما أسس حسن البنا هذه الجماعة التى ابتُليت بها مصر. لقد أصبح كل تاريخ الجماعة الذى استمر على مدار ٨٦ عامًا كاملة هشيمًا تذروه الرياح مع إشراقة شمس ١٤ أغسطس ٢٠١٣، وهو اليوم الذى يجسد «نكبة» الإخوان «برامكة» آخر الزمان.
ورغم أن هذه «النكبة» لم تكن الأولى؛ حيث مرت الجماعة بثلاث نكبات أخرى فى عاميْ ١٩٥٤، ١٩٦٥ أثناء حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وعام ١٩٨١ بعد اغتيال الرئيس السادات؛ فإن النكبة الأخيرة هى الأوسع نطاقًا والأعمق تأثيرًا، لأنها «النكبة» التى قصمت ظهر الإخوان، وأنهت وجودهم الفعلى والفاعل فى الدولة المصرية على مدار حوالى تسعة عقود من الزمان.
وثمة تقاطعات بين نكبة الإخوان ونكبة البرامكة؛ فكلاهما سعى إلى السلطة، واعتقد أنه وصل إليها وتمكن منها وملك أدواتها، ولكن فى النهاية اكتشف كلاهما أن ما كان بيديه إنما قبض الريح، ولا شىء غير ذلك. لقد حاولت الجماعة أن تستقطب عبدالناصر، وكان سيد قطب نفسه هو الذى سعى إلى «تديين» أو «أسلمة» أو «أخونة» ثورة يوليو، عندما أطلق عليها «حركة الجيش المباركة»، وحاول مرشد الجماعة أن يفرض وصايته على الدولة وعلى الرئيس عبدالناصر، وهو ما انتهى بالفشل الذريع الذى أفضى إلى محاولة الإخوان اغتيال ناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية لتقع نكبة الإخوان الأولى، وعندما فشل الإخوان فى الوصول إلى السلطة بركوب ثورة يوليو وسرقتها، حاولوا الانقلاب عليها من خلال الأفكار التى كتبها سيد قطب، وهو ما أدى إلى نكبتهم الثانية عام ١٩٦٥، والقبض على عدد كبير منهم، والحكم على سيد قطب نفسه بالإعدام. وتكرر الأمر ذاته عام ١٩٨١، عندما شاركوا فى مخطط اغتيال الرئيس السادات الذى فتح لهم أبواب المعتقلات.
وفى المرة الرابعة نجح الإخوان فى اختطاف ثورة ٢٥ يناير وسرقتها، ووصلوا إلى سُدة الحكم، وسيطروا على مؤسسة الرئاسة ومجلس الشعب ومجلس الشورى والمجالس المحلية والمحافظين، وبدأوا فى أخونة الدولة بوتيرة متسارعة، واعتقدوا أن الأمور قد دانت لهم أو كادت، تمامًا مثل البرامكة، إلا أن الشعب المصرى باغتهم بثورة عليهم لم تكن فى الحُسبان، واستجابت الدولة لمطالب الشعب، ليقوم الجيش والشرطة بتطهير الدولة من هذه الجماعة التى تحوم حول السلطة طوال تاريخها الأسود كما تحوم الفراشات حول النار.
إن «نكبة» الإخوان الأخيرة ليست ككل النكبات السابقة عليها.. فالنكبة الأخيرة كتبت السطر الأخير فى تاريخ الجماعة الطويل: «ولدت فى عام ١٩٢٨ وماتت فى ١٤ أغسطس ٢٠١٧»، وهو ما يشبه ما حدث للبرامكة يوم ٢٩ يناير عام ٨٠٣ ميلادية.