من سمات شعبنا الطيب المبالغة فى كل شيء، فى التفاؤل أو الإحباط، فى الفرح أو الحزن، فى الحب أو الكره، نتوج من نقدرهم ونجعلهم فوق الأعناق أو نخسف الأرض بهم، تحركنا مشاعرنا أكثر من حسابات العقل، فلا نعطى الأمور حجمها سلبًا أو إيجابًا!! ومن مظاهر المبالغة التى نراها أحيانا تمجيد الفنانين عند أدائهم لعمل ناجح، أو جلدهم معنويا فى حالة إخفاقهم، لذلك استفزنى الهجوم الضارى الذى تعرض له الفنان الكبير عادل إمام بعد مسلسله الأخير «عفاريت عدلى علام»، ورغم أن المسلسل لم يعجبنى ويعد من وجهة نظرى أسوأ مسلسلاته على الإطلاق، إلا أننى تعجبت من المبالغة ممن لم يكتفوا بانتقاده، وإنما طالبوه بالاعتزال، وحملوه مسئولية الكتابة والإخراج والإنتاج، وكأنه صاحب العمل وحده! لم يقدروا أنه فى النهاية فنان متميز، لكنه يصيب ويخطئ، فهو يختار أعماله بعناية ويحاول أن يقدم فى كل عمل أفكارا مختلفة ليجدد نفسه، ولكنه فى الغالب انساق هذه المرة لأفكار ابنه المخرج رامى إمام، الذى ربما أراد أن يقدم نوعية مختلفة تعتمد على الخدع والخيال، فيما يشبه «ألف ليلة وليلة»، أو ربما راقت له فكرة العفاريت والشعوذة وأعتقد أنها سوف تلقى قبولا من الجمهور، وخاصة أننا أصبحنا من المجتمعات الشغوفة بعالم الغيبيات، والتى تؤمن بالسحر والشعوذة ويستهويها الحديث فى الأبراج وحظك اليوم! لدرجة أننا نجد إعلانات فى قنواتنا العربية عن الدجالين والسحرة! إلى جانب ظاهرة استقبال العام الجديد ببرامج التنبؤات والأبراج! وكأن إعلامنا العربى يرسخ للشعوذة وعالم الجن والسحر لنظل فى مستنقع الجهل الذى نعيشه! إلى جانب ما نراه من شخصيات مرموقة ومسئولين يعتمدون فى حياتهم على الأحجبة والأعمال وقراءة الفنجان، وأذكر أننى كتبت مقالا عام (٢٠١٠) عن أحد الوزراء الذى استقبل فى مكتبه سيدة عجوزًا بملابس رثة لتقرأ له الفنجان! واستقبلها بحفاوة أمام موظفيه لأنها كانت قد تنبأت له بتولى الوزارة، والغريب أنه كان وزيرا للتربية والتعليم! نعم أخطأ عادل إمام فى الاختيار هذه المرة، وقدم فكرة مستهلكة، ولكن أخطأ قبله الكاتب يوسف معاطى الذى فضل الاستسهال، ولم يستثمر الفكرة الرائعة التى بدأ بها المسلسل، والتى جعلتنى أتابعه بشغف ظنا أنه سوف يتناول قضية هامة لم يتطرق إليها المبدعون فى أعمالنا الدرامية والسينمائية من قبل، وهى قضية الرسائل العلمية المزيفة، التى تجعل البعض يحملون ألقابا لا يستحقونها، ويتولون مناصب رفيعة ليسوا أهلا لها. فقد بدأ المسلسل بعرض شخصية عدلى علام الرجل المثقف الذى يعمل فى الظل فى إحدى هيئات وزارة الثقافة، فيحمل العلم دون أن يتولى المناصب، ونظرا لثقافته الواسعة وعلمه الغزير يستغله البعض فى إعداد رسائل علمية بأسمائهم، ومنهم وزير الثقافة نفسه! الذى قام بإعداد رسالتى الماجستير والدكتوراه له، ومع ذلك لم ينصفه فى تدرجه الوظيفى الطبيعى، ووقف ضده وعين مكانه من لا يستحق، حتى اضطر لرفع قضية ضد الوزارة لاستحقاقه منصب مدير دار الكتب، كما ظهر عدلى علام وهو يكتب مقالات باسم أحد كبار رؤساء تحرير لكى تنسب باسمه، ويقوم رئيس التحرير بتوجيهه سواء بالهجوم على الحكومة أو التخفيف من حدة اللهجة معهم، وهو ما يحدث كثيرا فى عصرنا الحالى، حيث نجد بعض كبار الكتاب والمبدعين يستغلون الموهبة والاحتياج المادى لبعض الشباب، ويقومون باستغلالهم وسرقة أفكارهم، كما نرى فكرة ورش العمل التى يعقدها بعض كبار الكتاب، بأن يقوم بجمع الشباب الموهوب، ويستغلهم فى كتابة أفكار تنسب فى النهاية للكاتب الكبير، الذى يأخذ المال والجاه، ولا يترك لهؤلاء الشباب سوى الفتات، مع الحسرة التى تصيبهم على مواهبهم التى تظل مدفونة إلى أن تأتى ضربة الحظ أو لا تأتى. كانت هذه الفكرة كفيلة بتحقيق النجاح للمسلسل، لأنها تنكأ جراحًا نعيشها بالفعل، وتظهر كم الفساد الذى نعيش فيه، فالأمم تتقدم بالعلم والعمل، ولا يمكن أن نتقدم طالما وصل التزييف إلى الشهادات العلمية، التى يتولى أصحابها أرفع المناصب دون علم حقيقى أو كفاءة. كنت أتمنى أن يستثمر الكاتب يوسف معاطى الفكرة التى بدأها ولا يكتفى بقشورها فقط، وبدلا من الاستسهال وتناول نفس الفكرة المستهلكة التى قتلت بحثا للدجل والشعوذة والعفاريت، كان من الأجدى أن يتناول الدجالين ومدعى العلم من حملة الشهادات العلمية المزيفة، والذين يزورون الماضى ويلوثون الحاضر ويسرقون الأمل والمستقبل.
آراء حرة
محاصرون بالدجل.. في الدراما والواقع!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق