فى سنوات الدراسة بمدينتى طرابلس، وفى مرحلة تعليمنا الأولى تحديدا، عرفنا كتلميذات بمدرسة الأنوار الابتدائية، معلمتين عربيتين كانتا من مصر، أولاهما كانت معلمة الرياضة (أبلة سنية جمعة)، وهى الرياضية فى حركتها، رغم وزنها الذى يبانُ مع قصرُ قامتها، المنضبطة، الصارمة معنا، كنا ساعة نراها بحذائها الرياضى تمسك عصاها، تخبط بقدميها الأرض وتذرع ساحة مدرسة الأنوار جيئة وإيابا بنشاط وحيوية، تحدقُ عيوننا بها نتابعها حتى تتقدم طوابيرنا وتُطلق صفارتها ببدء رياضة تخص طابور الظهيرة ما قبل الحصص الذى يختلف عن طابور الاستراحة، باستثناء توحده فى ندائها: فتح ضم، صفا انتباه! فنرفع ساقنا اليمنى أولا ثم اليسرى، أعلى أعلى بمستوى الصدر، هكذا كانت تُنبهنا قبل أن ننزلها بقوة أرضا!، وتخفف عنا أوامرها أوان طابور الاستراحة، فلا تكثر من تحريك جسدنا، إذ تراعى أن بطوننا قد ملأتها وجبة الاستراحة، وتشترط فقط أن نُسارع جريا من الطابور مباشرة إلى حجرة الفصل.
فى جدول الحصص حصتان للتربية الفنية، مرة فى الأسبوع، هما لثانيهما من عرفنا، وكم كان وقعها بردا وسلاما، معلمتُنا «أسماء حمدى» ذات الأيقاع الهادئ، فى مشيتها كما صوتها، قادنا فضولنا أن نتسمع مشكلات معلماتنا مع الإدارة أو مع بعضهن، عدا الاستثناء «أبلة أسماء»، فحين تدخل علينا نأخذ راحتنا فى الانتقال بين المقاعد لنتفرج على رسومات بعضنا البعض، نقترب من طاولتها حيث تقف، تأخذ كراسة الرسم خاصتنا، وتعدل خطوطا أو كائنات، وعادة أن ما نرسمه يبدو فى نظرها مستحقا لكلمات أنه: حلو، جميل، برافو!، بالنسبة لى أبدا لم أكن رسامة جيدة، لكن تشجيعها كان طيبا ومفرحا لقلوبنا، كما أننا ناجحون بأجمعنا عندها، كثيرا ما مشيتُ وراءها أحملُ كراسات الرسم لتصحح وتُعدل ما رسمنا،، تفاجأت أول مرة إذ تكشف لى أنها تسكن مع رفيقة لها فى بيت سبق أن أستأجره عمى فى شارعنا، عرفتُ البيت بديكوره السابق، لكنها أدخلت قطع أثاث تخصها وكان منها طاولة صغيرة، ذات مرة وُضع عليها ألبوم صور، وطلبت أن أضع كراسات الرسم قربه، فى زيارة أخرى رافقتها وكراسات الرسم، أجلستنى وفتحت أول صفحات ذاك الألبوم، وإذا به صورتها وشقيقها «بليغ حمدي»، ثم صورة أخرى أكبر يجلس فيها «بليغ» مع «وردة» على صالون مُتسع فى ركنه آلة عود، وعلقت: «بليغ كسلان قوى بس حنون وقلبه طيب، ثم أقفلت الألبوم، ودخلت المطبخ، ودعتنى لأخذ قطعة من بيتزا صنعتها بنفسها، وقتها كانت «وجبة البيتزا» من أحب ما نشتهى ونأكل، كنتُ طفلة لكن صورة وردة والضحكة الضاجة التى بدت على وجهها علقت بذاكرتي، وصرت كلما شاهدتها بقناتنا الليبية الوحيدة أشير بإصبعى وأقول لعائلتى هذه الفنانة أعرفها، وشاهدتها فى بيتها جالسة مع زوجها، أما بليغ حمدى فحملتُ اسمهُ منها، وأعدتهُ على مسمع والدي: معلمتى شقيقة بليغ حمدى فضحك والدى مستغربا ذلك، ما مثل له صورة متواضعة لتلك المعلمة التى أدرك أنى أحبها واقتربت منها، وزاد تعجبه أنها تستأجر ذات البيت الذى استأجره شقيقه، «أسماء حمدي» غادرت سكنها بشارعنا، كما غادرت مدرستنا بعد خروجى بسنوات قليلة، ولم أعد أراها، تقطع حينا لتتبضع أو تزور جيرانها، لم أخمن ساعتها هل غادرت مدينتى طرابلس فقط أم غادرت كل البلاد؟