الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مهادٌ مبين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كان لي خير في الحديث فخير ما أبدأ به أن بسم الله الرحمن الرحيم "رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي" صدق الله العظيم.
فإن هذا عمل متواضع أضع فيه تصوري لآليات تذوق النص الأدبي واستكناة أبعاده الفنية، محاولاً الأخذ بيد الطالب المتخصص إلى المولج الأقرب إلى فهم لغة الأدب عامة، والشعر بخاصة، إذ تبقى العربية بخير ما دام شعرها بخير، ومتذوق شعر العربية واقف، لا مراء على باب من فهم العربية عظيم، ولنا في قول ابن فارس خير سند فيما نذهب إليه إذ جزم بأن "الشعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تُعِلِّمتْ اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله جل ثناؤه، وغريب حديث رسول الله (ص)، وحديث صحابته والتابعين". 
فمن الشعر تُكتَسَبُ أسرار الضاد، ومن الشعر يفهم القرآن، ومن الشعر تُتعلم اللغة، وبجميل الشعر تتذوق الحياة، إذ بشواهده يُتأسى، وبمضامينه يُعبر عن نجاوى الذوات، ومن روائعه تستلهم لغة التعامل، وعلى قول الإمام إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يُطمح إليها بالفكر، وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب ، وعنوان الأدب ، والذي لا يشك أنه ميدان القوم إذا تجارَوْا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قصب الرهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد بعض الشعراء على بعض، كان الصاد عن ذلك صادًّا عن أن تُعرف حجة الله تعالى، وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى، ويقوموا به، ويتلوه، ويقرءونه". 
ولقد لحق القصيدة العربية في عصرنا الحديث تطور مذهل، سواءً أكان هذا التطور في الشكل أو في المضمون، وهذا التطور وصل لدرجة وضع المبدع والناقد كليهما في موقف حرج، فلقد أوغل الأول في الإغراب، وتمادى الأخير في محاولة إثبات أنه على درجة من الفهم، وكان المنتج مشوها بدرجة غريبة، فما أضحت القصيدة قصيدة، ولا أضحى فهمها فهمًا مبينا، وبين الحضور تصاغري أمامهم، وأمام نفسي، وأنصت إلى النقادة الألمعي معلقا على القصيدة فأجدني أمام نوع آخر من التزييف المقصود، ولون من التعمية غريب، ولم بين الاثنين ضاع الشعر ونقده.
أما عن موقفي، فأنا لا يروقني سوى النص الجيد، النص الذي يحملني طائعًا مختارًا إلى عالمه، النص الذي يتلبسني وأتلبسه، فلكم تروقني قصائد من الشعر الجاهلي، وأقف مشدوها أمام قدرة الشاعر على الوصف، وبراعته في حسن التخلص، وتُؤْثر فَيَ لغته، ويأسرني صدقه في التعبير، ثم لا أكاد أقف كثيرا عند شعر صدر الإسلام، وإن وُجدت فيه قصائد رائعة، وتستوقفني روائع في العصر الأموي، ثم أجدني سابحا في محيط لا شاطئ له عندما أصل إلى العصر العباسي كله على امتداد قرونه الخوالد، وكذلك أدبي مصر والأندلس وصولاً للعصر المملوكي الذي أكاد لا ألم بالكثير عنه وعن شعرائه اللهم إلا شعراء التصوف، ويحط بي رحال السبح على شاطئ العصر الحديث، وقد درست شعر شاعريه العظيمين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ووعيت عطاءات مدارس أدبه حتى قصيدة التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر، ولي مع هذا النوع وقفة، إذ منه ما هو جميل مستحسن ومنه ما هو قمئ مستهجن، وكلما بالغ شاعر الشعر الحديث في الإغراب، وجد مني نفورًا، وكثيرا ما طالعت قصائد، فلم أفهمها، فهرعت إلى النقد أستبين مدى جهلي فإذا بي أمام نقد للقصيدة ذاتها التي لم أفهمها، أكثر استعصاءً على من القصيدة محط التناول، وهنا أقف أمام نفسي وقفة مصارحة، سائلا إياها، هل العيب في جهلها بأدوات فهم النص، أم أن العيب في المبدع الذي ظن أن الإغراب ابداعًا؟؟ أم العيب في الناقد الذي حاول نفي الجهل عن نفسه بوضع نص موازٍ للنص الأصلي، يقابل فيه إلغازه بإلغاز جديد؟؟ أم أن العيب في مجموع ذلك كله، وفي فساد بيئة الثقافة المعاصرة؟؟
وكثيرا ما كنت أحضر ندوات الأدب، تلك التي يجتمع فيها الشعراء والمتشاعرون ليستمعوا إلى أنفسهم، ثم يكيل كل منهم المديح للآخر، والثناء الجميل على عمله ذاك الذي لم يُسبق إليه، فأستمع إلى الشاعر منهم يلقي عمله فلا أفهم منه شيئا، ولا أقف فيه على وزن قويم، ولا معنى مستحسن، ولا تصوير متقن، ولا ايقاع آسر، ولا حتى لغة رائقة، فأتوارى خجلا من ذاتي متهما نفسي بتيبس الذائقة، وضحالة التصور، وسوء الفهم، ويزداد ما يك أشد إيلامًا على قلبي أكثر من معرفتي بإمكانات هذا الناقد، فأعجب كيف سخر هذه الإمكانات إلى حد تغييب وعي جيل بأكمله، أليقال عنه إنه ناقد فذ ؟؟ وما جدوى عطاء لا يستساغ ولا يُحترم؟ وما كان مني إلا أن اعتزلت هذه التجمعات، واكتفيت بجلسات شديدة الخصوصية مع مثقفين حقيقيين لم تلوثهم فتنة الحداثة، وظلوا على وفائهم للكلمة الحلوة، والتعبير الآسر، وما كان إلا أن قامت ثورة التكنولوجيا وتلتها ثورة تحطيم الأسواركلها، بما فيها أسوار القيم، وأسوار حدود الإبداع، فانفجرت في أوجه الجميع (بلاعة)، وهي كلمة على قماءتها فصيحة، ولا يقوم غيرها مقامها، انفجرت بلاعة تحمل إلينا الغثاء الكثير ومن سفاسف القول ما لا حد له، وهنا كان لابد أن ينبري للدفاع عن الفن الأصيل كل من له به صلة، وكل من لم يلوث له قلم بمجاملة لمتشاعر ولابد أن يعي كل محاول أن للغة رجالاتها الزائدين عنها ، وللنقد متخصصيه، وللتذوق أربابه، وقد جاءت لحظة أن يقول كل واع بأصول الأدب (لا) لكل غث ردئ، وعني، فقد أخذت على نفسي عهدًا بأن أصرح بعدم فهمي، إن لم أفهم، وأن أنتقد كل ردئ، وأن أعبر عن اعتراضي على الزلل، إن وجد، بكل جرأة، وأن أرفض، صراحة وبلا مواربة ذلك الورم الخبيث الذي ظهر في أدبنا المعاصر تحت ما يسمى بقصيدة النثر، فليكتب النثر الفني من شاء، ولكن في حدود أنه نثر ، وليكتب الشعر من شاء، ولكن في حدود أنه شعر له أصوله، وله آساسه، أما أولئك الراقصون الواقفون على أعراف الأدب فلا اعتراف لدي بما يكتبون ، حتى وإن جاوزت شهرتهم الجوزاء، فليكتبوا ما شاءوا، وقطعي أنهم لن يجدوا من يقرؤهم، وإن وجدوا، فإنما سيجدون من هم على شاكلتهم، ممن لا يخلد لهم قول.